dimanche 27 novembre 2016

مشروع ميزانية 2017 : بين إملاءات المؤسسات المالية العالمية و ضغط لوبيات الفساد

مصطفى الجويلي

مشروع ميزانية 2017
بين إملاءات المؤسسات المالية العالمية و ضغط لوبيات الفساد  

انطلقت منذ أيام النقاشات حول مشروع قانون المالية لسنة 2017[1] بعد أن تجندت الآلة الإعلامية لتشيع خطاب الهرسلة و التخويف حول "كارثية الوضع الاقتصادي" و "شبح الإفلاس". ولئن كان هذا الخطاب يحمل في طياته بعضا من الحقيقة إلا أن القفز عن تبيان الأسباب الحقيقية للأزمة و ما ينجر عنه من تحميل للمسؤولية السياسية لا يهدف إلا إلى فرض الخيارات القديمة المتجددة تحت غطاء "التضحية من أجل المصلحة الوطنية" . لهذا أكدت وثيقة مشروع الميزانية منذ صفحاتها الأولى على  ضرورة  " تعاضد مجهود كل الأطراف السياسية والاجتماعية على المستوى الوطني لاستكمال الإصلاحات الاقتصادية التي تم الشروع في تنفيذها خاصة التي تتعلق بالأساس بالوظيفة العمومية وإصلاح المنظومة الجبائية والمالية ومنظومة الدعم و توجيهه للمستحقين الحقيقيين" (ص 26). ليست الإصلاحات المراد استكمالها إذن إلا جملة الإجراءات المفروضة من طرف صندوق النقد الدولي الواردة في ما عرف بـ "رسالة النوايا"[2] التي قد تناولت تفاصيلها في مقال سابق[3].
يبدو إذن أن التحالف الرجعي الحاكم الذي تجاوز البعض من ضعفه و وهنه أصبح اليوم أكثر جرأة و أكثر إصرارا على تطبيق إملاءات المؤسسات المالية العالمية وتمرير كل المشاريع المنقلبة على الأهداف الاجتماعية للمسار الثوري و هنا تكمن أهمية و خطورة مشروع  ميزانية 2017 الذي لا ينفصل عن سلسلة من  جملة المشاريع (مجلة الاستثمار، قانون الطوارئ الاقتصادية) التي مررتها ديمقراطية الأغلبية اليمينية.  لهذا، فإن التعاطي مع مشروع ميزانية 2017 يجب إن يتجاوز ردة الفعل و القراءة السطحية التقنوية التي تلخص جوهر هذا المشروع في عنصر تجميد الأجور و انعكاساته السلبية على المقدرة الشرائية لعموم الأجراء. فالسياق الذي جاء فيه المشروع و ما ورد فيه من إجراءات يتجاوز بكثير مسالة تجميد الأجور ليصبح استكمالا لمسارين مترابطين يهدف الأول إلى تفكيك ما تبقى من النسيج الاقتصادي الوطني و إعادة هيكلته بما تقتضيه إملاءات المؤسسات المالية العالمية و مصلحة الشركات الرأسمالية العالمية و القوى الاقتصادية المهيمنة. أما الثاني فهو ما بدأت تتشكل ملامحه بوضوح مع "حكومة التكنوقراط"[4] و الرامي إلى دعم موقع و سلطة  الشريحة الرثة و الأكثر تعفنا من الكمبرادور المرتبطة عضويا بالفساد كمجال رئيسي للنشاط و مراكمة الأرباح. هذه النقاط سنحاول تبيانها من خلال تحليل المنطق العام و الخيارات الكامنة وراء قانون المالية و الوقوف عند أهم تفاصيله.     
1-   فرضيات الميزانية: الموازنات الوهمية و التمهيد لميزانية تكميلية.
حسب الوثيقة المذكورة يقدر حجم ميزانية الدولة لسنة 2017 قبضا وصرفا بـ 32400 م.د  أي بزيادة تقدر بـ 11 % مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2016. كما ينتظر أن يستقر مستوى عجز الميزانية في حدود 5,4 % مقارنة بـ 5,7 % محتملة لسنة 2016 . و تعتمد هذه التقديرات على ثلاث فرضيات هي: نسبة نمو بـ 2,5 % بالأسعار القارة لسنة 2017 ، معدل سعر النفط  لكامل السنة بـ  50 دولار للبرميل الواحد ومستوى سعر صرف الدولار بـ 2,25 دينار . هذا يعني أن تحقيق التوازنات المالية المرتقبة من حيث حجم المداخيل (الجبائية و الغير جبائية) و توزيع النفقات و مستوى العجز يرتبط بتوفر الشروط الثلاث مجتمعة: نسبة النمو، سعر الصرف و سعر النفط.
يبدو أن تقدير سعر النفط اعتمد على التوقعات والنتائج المحتملة لسنة 2016. ذلك أن ميزانية 2016 توقعت أن يكون سعر النفط في حدود 55 دولار للبرميل ثم تم تحيين هذا المؤشر إلى مستوى 45 دولار بعد أن انخفض سعر النفط في الأسواق العالمية. من الواضح إذن أن تقدير سعر النفط في مشروع ميزانية 2017 اعتمد معدل السعر المتوقع (55 دولار) و السعر المحتمل (45 دولار) لسنة 2016.  و لئن كان هذا التقدير عموما متناغما مع الاحتمالات الشبه مؤكدة بارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية بداية من 2017 إلا أن نسبة الارتفاع المحتملة (5 دولارات على كل برميل) تبقى دون النسب المتوقعة من طرف المختصين و المتابعين لحركية أسواق النفط في العالم.
حسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة[5]  ستشهد أسعار النفط ارتفاعا ملحوظا بداية من 2017  ليبلغ ذروته في حدود 2020-2021. و يرتبط هذا الارتفاع أساسا بتراجع إنتاج النفط نتيجة لتراجع استثمارات الشركات البترولية العالمية بـ 24 % سنة 2015 و 17 % سنة 2016 ( هذا التراجع لسنتين متتاليتين لم يحصل منذ سنة 1986) و انخفاض الإنتاج الأمريكي لنفط الشيست بسب ضعف مردوديته. هذا التراجع في الإنتاج يقابله ارتفاع مرتقب للطلب (خاصة في الصين) مما سيدفع نحو ارتفاع الأسعار ليكون السعر الأدنى في مستوى 55 دولار للبرميل (وهو المستوى الحالي لسعر النفط) ليتجاوز 70 دولار في أواخر 2017.  هذا إلى جانب سعى الولايات المتحدة الأمريكية المحموم للدفع نحو ارتفاع  أسعار النفط التقليدي حتى تضمن الحد الأدنى من المردودية لإنتاجها من نفط الشيست (وهو ما يفسر جزئيا توتر العلاقات بين أمريكا و حليفها التقليدي المملكة السعودية ذلك أن هذه الأخيرة في إطار صراعها مع إيران عمدت إلى إغراق السوق وهو ما أضر بمصالح الشركات الأمريكية المنتجة لنفط الشيست)  .
الفرضية الثانية التي بنيت عليها ميزانية 2017  هى نسبة نمو بالأسعار القارة (باحتساب التضخم) تقدر بـ 2,5 %.  و قد اعتمدت الحكومة في هذا الشأن على تقديرات صندوق النقد الدولي بخصوص تطور الوضع الاقتصادي في تونس لسنة 2017 وهو ما يبين عجز هذه الحكومة بجهازها البيروقراطي المتضخم وعدم قدرتها على القراءة السليمة للواقع و استشراف إمكانيات تطوره في المستقبل القريب واعتمادها السلبي على احتمالات و توقعات المؤسسات المالية العالمية. من ناحية أخرى يبدو أن حكومة العمالة لم تتعض من التجارب السابقة ذلك إن نفس صندوق النقد كان قدر نسبة النمو بـ 2,5 % سنة 2016  و هى الفرضية التي تم اعتمادها لإعداد الميزانية لنفس السنة. إلا أن صندوق النقد تراجع فيما بعد ليخفض تقديراته إلى مستوى 1,8 % و هو ما دفع الحكومة إلى الإعلان في جلسة في مجلس نواب الشعب بتاريخ 12 جويلية 2016 عن مراجعة قانون المالية وتحيينه. كما أن التقديرات الحالية تشير إلى أن نسبة النمو المحتملة لسنة 2016 لن تتجاوز في أحسن الحالات 1,5 %.
بقطع النظر عن مدى واقعية فرضيات صندوق النقد الدولي ونزاهتها، فان تحقيق نسبة نمو بـ 2,5 % لسنة 2017  تبدو في الواقع الراهن للاقتصاد التونسي وفي ضل الخيارات القديمة المتجددة  أمرا مستحيلا. ذلك أن تحقيق مثل هذه النسبة يتطلب شرطين أساسيين. يتمثل الشرط الأول في تطور الطلب بعنصريه الداخلي و الخارجي. إلا أن إمكانيات تطور الطلب الداخلي قد وقعها نسفها مسبقا بمقتضى إجراءات تجميد الأجور و الانتدابات في الوظيفة العمومية المنصوص عليها في مشروع الميزانية نفسه  إلى جانب غياب الإرادة في التحكم في ارتفاع الأسعار و نسبة التضخم التي سترتفع إلى مستوى  4,2 % سنة 2017 مقابل 3,6 % سنة 2016 حسب معطيات البنك المركزي[6] وهو ما سيؤثر سلبيا على نسق و حجم الطلب الداخلي. أما الطلب الخارجي، أي إمكانيات التصدير، فان نسق تطوره المرتقب يضل ضعيفا في واقع أزمة اقتصادية عالمية و خاصة ضعف النمو في الاتحاد الأوروبي بوصفه الشريك التجاري الأول لتونس.
أما الشرط الثاني فيتمثل في تطور جدي للاستثمار في القطاعات المنتجة على وجه الخصوص. إلا أن ما جاء في مشروع قانون المالية 2017  لا يحتوي أي إجراء من شأنه  أن يدفع الاستثمار العمومي و يجعل منه قاطرة لحركية اقتصادية جدية قادرة على المراكمة و الإنعاش الحقيقي للاقتصاد. و في انسجام  تام مع إملاءات الدائنين الداعية إلى انسحاب الدولة و تخليها عن دورها الاقتصادي أوكلت هذه المهمة  إلى الاستثمار الخاص عبر سياسة الحوافز و التشجيعات و هي سياسة أثبتت فشلها في ضل استثمار خاص يبقى في معظمه طفيلي و منحصر في دوائر المناولة و المضاربة وهو بالتالي موضوعيا غير قادر على تحقيق النمو المرتقب.
الفرضية الثالثة تتمثل في سعر صرف الدولار المقدر بـ 2,25 دينار كمعدل لسنة 2017 أي انخفاض قيمة الدينار مقارنة بالدولار بنسبة 6 % . و تجدر الإشارة إلى أن سعر صرف الدولار كان في مستوى 1,962 دينار سنة 2015  و قد اعتمدت ميزانية 2016  في تقديراتها على  سعر 1,970 دينار ليتم تحيينه في شهر أكتوبر في مستوى 2,120 دينار أي أن الدينار سجل انخفاضا في قيمته مقارنة بالدولار بنسبة 8 % بين 2015 و أكتوبر 2016. هذا يعني أن الدينار سيواصل تدهوره و أن هذا التدهور سيتجاوز سنة 2017 تقديرات مشروع قانون المالية حسب تأكيدات البنك المركزي أي أن سعر صرف الدولار سيستقر في مستوى أعلى من 2,25 دينار .
في الواقع، أن تدهور الدينار في سنة 2017 و السنوات المقبلة ليس مجرد فرضية لصياغة مشروع الميزانية بل سياسة ممنهجة متناغمة مع إملاءات المؤسسات المالية العالمية. لذلك، رغم الخطاب الرسمي المتحدث في العديد من المناسبات على تدهور الدينار و انعكاساته السلبية فان مشروع ميزانية 2017 لم يحتوي أي إجراء من شائنه أن يدعم قيمة الدينار و يمنع انزلاقه مقارنة بالعملات الأجنبية.  قد يجيبنا هنا "خبراء السلطة" بان المحافظة على قيمة الدينار ليست من مشمولات الحكومة بل مهمة البنك المركزي. إلا أن هذا البنك المركزي الذي أصبح "مستقلا" قد تخلى عن هذه المهمة، بل أن محافظه و في رسالة النوايا التي بعث بها إلى مديرة صندوق النقد الدولي اعتبر أن قيمة الدينار مرتفعة مؤكدا على ضرورة التخفيض من قيمته لدعم المنافسة و تشجيع التصدير و ذلك بالحد من تدخل البنك المركزي و إضفاء مرونة أكثر على قوانين الصرف.
من الواضح إذن أن الفرضيات الثلاث (نسبة نمو بـ 2,5 % ، معدل سعر النفط  لكامل السنة بـ  50 دولار للبرميل الواحد  و مستوى سعر صرف الدولار بـ 2,25 دينار) التي بني عليها مشروع ميزانية 2017 غير واقعية وهو ما يعني أن الموازنات العامة المنصوص عليها في هذا المشروع غير قابلة للتحقيق. يكفي فقط أن نشير هنا إلى أن زيادة دولار واحد في سعر برميل النفط يكلف ميزانية الدولة كلفة إضافية بـ 40 مليون دينار و أن سعر صرف أعلى مما هو متوقع يعني ارتفاع خدمة الدين مقارنة بالتقديرات....عموما، أن عدم ملائمة الفرضيات للواقع يعني بالنسبة لميزانية الدولة كلفة أكبر و مداخيل أقل (المداخيل الجبائية و الغير جبائية مرتبطة بنسبة النمو) أي نسبة عجز أعلى من التوقعات وهو ما سيدفع الدولة إلى مزيد من التداين من جهة و الضغط على النفقات (الاقتصادية و الاجتماعية خاصة) من جهة أخرى.
لا اعتقد أن "خبراء السلطة" أو من اشرفوا على صياغة هذا المشروع يجهلون هذه المعطيات أو أنهم غير واعين بأن الفرضيات التي استندوا إليها مغلوطة و غير واقعية. لكن يبدو أن حكومة العمالة تسعى فقط إلى تقديم مشروع بموازنات في ظاهرها سليمة حتى يسهل تمريره من ناحية، و من ناحية أخرى، و كأنها تخوض حملة انتخابية و تسوق لصورتها كحكومة "وحدة وطنية"، تسعى، عبر مؤشراتها المغلوطة،  إلى إيهام التونسيين بتحسن منظور في أوضاعهم حتى يسهل ابتزازهم و حملهم على "التضحية" من اجل "المصلحة الوطنية". خاصة وان هذه الحكومة ستخضع لأول مهمة تفقدية  من طرف صندوق النقد الدولي في 31 ديسمبر 2017 للوقوف على مدى التزامها بتطبيق الاملاءات الواردة في رسالة النوايا.
المسالة الثانية و الأهم في نظرنا هي أن اعتماد فرضيات مغلوطة ليس إلا تهيئة لميزانية تكميلية سيطالب فيها التونسيون بتضحيات جديدة. كان من المفروض أن يدور النقاش حول البرامج و الخيارات العامة للسلطة، فالميزانية ليست في الواقع إلا تنفيذا سنويا لهذه الخيارات. قد يذهب البعض إلى القول بان الحكومة لا تمتلك برنامجا وهذا مجانب للصواب  إذ لا وجود لحكومة بدون برنامج مهما كانت طبيعتها. برنامج هذه الحكومة (و الحكومات السابقة) مضمن في ما يسمى بمخطط التنمية 2016-2020 و رسالة النوايا  و أيضا مشروع الإصلاح الجبائي الذي أعدته  وزارة المالية في ماي 2013 .إلا آن هذه الوثائق نادرا ما تقع الإشارة إليها و لم تعرض يوما لنقاش علني رغم أن كل الميزانيات المتعاقبة كانت وفية لكل ما جاء فيها.
رغم الانكسارات التي عرفها المسار الثوري فان موازين القوى لم تحسم نهائيا لصالح التحالف الطبقي الحاكم كما أن هذا التحالف و الأحزاب الممثلة له، نتيجة للمصالح المتباينة، ليس على درجة من التماسك تسمح له بفرض كل خياراته وتصوراته كما أن الخوض في البرامج و التصورات يعري جوهره الطبقي ويكشف تواصله مع نفس السياسات السابقة. لذلك تحولت الميزانيات إلى الآلية الوحيدة للتعاطي مع الواقع  الاقتصادي. هذه الميزانيات التي لا تقدم كتصورات و خيارات بل كحلول تقنية، "علمية" لا بديل عنها في مواجهة أزمة اقتصادية تجتهد الآلة الإعلامية و الخبراء المرتزقة في البحث لها عن أسباب مستقلة تماما عن الخيارات المتبعة. وتجدر الإشارة هنا أنه قد تم اعتماد 12 ميزانية في الست سنوات الأخيرة، 6 ميزانيات عادية و 6 ميزانيات تكميلية و هو ما يبين أن ضعف التحالف الحاكم يدفعه إلى تجزئة المعارك و أن الميزانيات التكميلية أصبحت تكتيكا متبعا من طرف الحكومات المتعاقبة للتمرير التدريجي و الناعم لكل الإجراءات المعادية  للوطن و الشعب. من هذا المنطلق يمكن الجزم أن اعتماد فرضيات مغلوطة ليس جهلا أو غباء بل، كما أشرنا سابقا، يسعى إلى تقديم مشروع بموازنات في ظاهرها سليمة حتى يسهل تمريره و في نفس الوقت يهيئ لميزانية تكميلية. بعد تمرير مشروع الميزانية بأشهر سنكتشف هكذا فجأة أن كل التوقعات مغايرة للواقع (و قد يتهم الواقع لأنه خالف التوقعات) و أن كل التوازنات ستختل وتعود الآلة الإعلامية لخطاب الكارثة وشبح الإفلاس. وقتها ستقترح الحكومة، ربما بتشكيلة مغايرة، ميزانية تكميلية تضع فيها التونسيين أمام ضرورة القبول بمزيد "التضحيات" و إجراءات أخرى قد تتجاوز تجميد الأجور و الانتدابات لتشمل التخلي عن الدعم و التفويت في ما تبقى من المؤسسات العمومية.   
2. بين تجميع الموارد و التقشف : الخيارات المؤسسة لمشروع الميزانية
ليست الميزانية مجرد دفتر حسابات تستوي فيه رياضيا جملة من المعادلات و الموازنات المالية بل هي ترجمة مباشرة للخيارات الاقتصادية و الاجتماعية الغير منفصلة موضوعيا عن المصالح الطبقية. فالتعاطي مع مشروعي الميزانية و قانون المالية يجب إذن أن يتجاوز منطق الأرقام و الجداول ليرصد الخيارات المؤسسة لهما ومن يتحمل كلفة هذه الخيارات.
ينطلق مشروع قانون المالية من واقع الأزمة الاقتصادية الخانقة و ما يتطلبه من إجراءات استثنائية وهي مسألة لا يختلف فيها اثنان. إلا أن الحكومة، في تناغم مع مقاربة المؤسسات المالية العالمية، تحصر الأزمة أساسا في اختلال التوازنات المالية. لهذا فان تصور قانون المالية و مشروع الميزانية لم يكن محكوما بتعزيز قدرة الدولة على الاستثمار و التشغيل و  الحد من المديونية و حماية النسيج الاقتصادي الوطني و تحسين ظروف حياة التونسيين عموما بل كان محكوما فقط بضرورة الحفاظ على عجز الميزانية في الحدود التي تسمح بها المؤسسات المالية العالمية. من هذا المنطلق فان الإجراءات الاستثنائية المقترحة استهدفت تجميع موارد إضافية من جهة و التقشف للضغط على النفقات من جهة أخرى.
من جهة تجميع الموارد، تضمن مشروع قانون المالية  جملة من الإجراءات الاستثنائية تمثلت أساسا في  مراجعة جدول الضريبة على الدخل و إرساء مساهمة ظرفية استثنائية للشركات ومراجعة قاعدة ونسب الأداء على القيمة المضافة. إلى جانب إجراءات أخرى مثل معلوم التسجيل تكميلي والمعلوم على الرحلات البحرية و تكثيف الاستخلاص و الترفيع في أسعار التبغ. جملة هذه الإجراءات سنعود عليها بأكثر تفصيل و سنكتفي هنا ببعض الملاحظات.
تتكون الموارد الذاتية للدولة من موارد جبائية و موارد غير جبائية  إلا أن الإجراءات المقترحة في قانون المالية شملت فقط الموارد الجبائية. أما الموارد الغير جبائية فقد قدرت بحوالي 2195 م.د أي بتراجع بنسبة 12,4 % مقارنة مع النتائج المحتملة لسنة 2016 . يعود هذا التراجع إلى نفاذ عائدات الخوصصة بعد استخلاص الجزء الأخير من التفويت الجزئي في اتصالات تونس و تردي عائدات الشركات العمومية نتيجة سوء التصرف و الفساد الذي يحكمها والتي يبدو أن التحالف الحاكم يسعى إلى تعميق مشاكلها المالية حتى يبرر خوصصتها في وقت لاحق. عموما أمام هذا التراجع للموارد الغير الجبائية وجدت حكومة العمالة و الفساد الحل في التعويض الجزئي عبر الإجراءات الجبائية الاستثنائية .
تتكون المداخيل الجبائية من الأداءات المباشرة و الأداءات الغير مباشرة التي تضم بدورها المعاليم الديوانية و الأداء على القيمة المضافة و الأداء على الاستهلاك وجملة من المعاليم الأخرى. يقدر حجم المعاليم الديوانية في ميزانية 2017 بـ 700 م.د وبذلك تواصل نسبة المعاليم الديوانية في الأداءات الغير مباشرة انخفاضها من 28,1 % سنة 1990 إلى 7,4 % سنة 2010 و6 %  سنة 2016 لتكون في حدود 5,7 % حسب التقديرات لسنة 2017. في نفس الوقت ارتفعت مساهمة الأداء على القيمة المضافة من 35,6 % سنة 1990 إلى 48,9 % سنة 2010 و46,1 %  سنة 2016 لتكون في حدود 47,1 % حسب التقديرات لسنة 2017. وهو ما يعني أن ما تمنحه الحكومة من امتيازات للرأسمال العالمي و لوبيات التوريد في إطار مسار تفكيك المعاليم الديوانية (أهم بنود اتفاق المنظمة العالمية للتجارة و اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي)  يقع تعويضه على كاهل الشرائح الاجتماعية الوسطى و الضعيفة ذلك أن الترفيع في الأداء على القيمة  المضافة و توسيع قاعدته ينعكس أليا في شكل ارتفاع في الأسعار عند الاستهلاك.
أخيرا، يقدر المردود المنتظر من الإجراءات الاستثنائية  بـ 1263 م.د  أي ما يعادل 5,8 % من الموارد الجبائية و 5,3 % من الموارد الذاتية و 3,9 % من مجمل موارد الميزانية لسنة 2017. في حين ترتفع الأداءات المثقلة إلى 8000  م.د  أي ما يعادل 6 أضعاف مردود الإجراءات الاستثنائية أو 37 % من الموارد الجبائية و 33 % من الموارد الذاتية و 25 % من مجمل موارد الميزانية . كما أن التهرب الضريبي يقدر بحوالي 50 % من المداخيل الجبائية المنتظرة (أي أن ما يدخل ميزانية الدولة لا يمثل سوى نصف المداخيل الجبائية الحقيقية) أي ما يعادل 67 % من ميزانية الدولة . اما الاقتصاد الموازي الذي يمثل حوالي 50 % (على اقل تقدير) من الناتج المحلي الخام فأنه يتسبب في خسارة جبائية (باعتبار الناتج المحلي الخام و نسبة الضغط الجبائي لسنة 2016)  بحوالي 9500 م.د  أي ما يعادل 44 % من المداخيل الجبائية و40 % من الموارد الذاتية و 30 % من ميزانية 2017.  أي أن الحكومة تتغافل عن موارد تفوق حجم الميزانية بأكملها و تساوي أكثر من خمس مرات الحجم  الجملي للتداين و أكثر من 6 مرات حجم الديون الخارجية لسنة 2017 و تكتفي بإجراءات استثنائية بمردود ضعيف جدا.
حفاظا على مصالح الكمبرادور الطفيلي و لوبيات الفساد و التهرب الضريبي و الاقتصاد الموازي تحمل الحكومة إذن كلفة  الخيارات اللاوطنية و اللاشعبية للشرائح والطبقات الاجتماعية المهمشة و المفقرة . كما أنها بهذه الإجراءات التي تضمنها مشروع قانون المالية تبحث عن الموارد حيث لا توجد و أمام شحة الموارد يتزايد اللجوء إلى التداين الخارجي.
حسب التقديرات ستقترض الدولة في 2017 ما يعادل 8505 م.د  منها 6045 م.د في شكل اقتراض خارجي موزع بين السوق المالية العالمية (1262 م.د) و البنك الدولي (1125 م.د) و صندوق النقد الدولي (1435 م.د) والبنك الإفريقي للتنمية (300 م.د) و الاتحاد الأوروبي (1125 م.د) وهو ما سيضعنا تحت طائلة الكلفة المرتفعة للسوق المالية و الشروط المجحفة للدائنين. وبناء على هذه التقديرات، سيبلغ قائم الدين العمومي 62660 م.د في موفى سنة 2017 أي ما يعادل 63,8 % من الناتج المحلي الخام. هذه المديونية المجحفة ستضغط على ميزانية الدول و ستدفع نحو مزيد من الحيف الاجتماعي و تعميق مسار التفويت في المؤسسات العمومية خاصة و أن حكومة العمالة قد وضعت السيادة المالية لتونس تحت تصرف بنك الأعمال أرجيل Arjil بمقتضى عقد ابرم في 10 ماي 2016. حسب هذا العقد يتكفل بنك الأعمال بهيكلة مخطط التنمية 2016- 2020 حسب البرنامج المسطر من طرف صندوق النقد الدولي كما يتكفل بـ "التسويق" لهذا المخطط في إطار "المؤتمر الدولي للاستثمار" الذي يشرف على تنظيمه. للتذكير، بنفس الطريقة سلمت اليونان سيادتها إلى بنك الأعمال لازار Lazard الذي نظم "مؤتمرا دوليا" أجبر اليونان على خوصصة ما يساوي 50 مليار أورو من الممتلكات العمومية لتسديد ديونه.       
الركيزة الثانية لمشروع الميزانية هو ما سمي "سياسة التقشف". نظريا تعني سياسة التقشف الضغط على بعض نفقات الدولة اعتمادا على ترتيب تفاضلي يعكس أهمية مختلف النفقات في علاقة بجملة من الأهداف الاقتصادية و الاجتماعية. في الواقع الراهن لتونس، من المفروض أن تحدد معالم سياسة التقشف (كيف و في أي نفقات) في علاقة بالأزمة الراهنة و إمكانات تجاوزها.  
كما اشرنا سابقا، تقدر ميزانية الدولة لسنة 2017 قبضا وصرفا بـ 32400 م.د  أي بزيادة تقدر بـ 11 % مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2016. و إذا اعتبرنا نسبة التضخم المحتملة بـ 3,7 %  فإن حجم الميزانية بالأسعار القارة قد ارتفع بنسبة 7,3 %  وهو ما ينفي عنها و لو نسبيا صفة التقشف و يستوجب رصد تطور مختلف نفقات الميزانية لنتبين جوهر سياسة التقشف التي تسوق لها حكومة التحالف اليميني.
يتكون العنصر الأول من نفقات الميزانية من نفقات التصرف التي تضم التأجير و التسيير و التدخلات (الدعم و التدخلات الاجتماعية الأخرى). وقد قدرت نفقات التصرف بـ 20240 م.د أي بزيادة تقدر بـ 9,5 % مقارنة بالنتائج المحتملة في 2016 إلا أن المكونات المختلفة لهذه النفقات لم تسجل تطورا بنفس النسق. ذلك أن أحد الإجراءات الاستثنائية تمثل في تأجيل الزيادات في الأجور و تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية (وهو في الواقع ليس إجراء استثنائي و سنتناوله بأكثر تفصيل لاحقا) مما مكن من الضغط على كتلة الأجور و ضبطها في حدود 13700 م.د أي بزيادة قدرها 4,2 %  فقط مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2016.  في حين انه، في غياب هذا الإجراء، كانت كتلة الأجور ستستقر في حد أدنى بـ 14615 م.د  أي بزيادة تفوق 11 %.   
أما نفقات التدخل و التي كما اشرنا تتضمن نفقات الدعم و التدخلات الاجتماعية فقد قدرت بـ 5113 م.د  أي بزيادة قدرها 22,3 % مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2016 ولكن ذلك لم ينعكس و لو جزئيا على نفقات دعم المواد الأساسية التي حافظت على نفس المبلغ المرسم في ميزانية 2016 أي 1600 م.د. ولكن بالنظر إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق العالمية الذي سيستمر في السنوات المقبلة (خاصة بالنسبة للحبوب و الزيوت النباتية) و تدهور قيمة الدينار و الارتفاع المنطقي لاستهلاك التونسيين من سنة إلى أخرى فإن نفقات دعم المواد الأساسية لا يمكن إلا أن ترتفع  إلا إذا كانت الحكومة تستعد للتخلي التدريجي عن الدعم وهو ما سينعكس ضرورة في ارتفاع أسعار هذه المواد عند الاستهلاك. ويبدو أن التمهيد لمثل هذا الإجراء قد انطلق فعليا ذلك انه رغم العوامل المذكورة (ارتفاع الأسعار العالمية، تدهور الدينار...) فان نفقات دعم المواد الأساسية لم تسجل إلا ارتفاعا طفيفا من 1417 م.د سنة 2014 إلى 1530 سنة 2015 (7,9 %) و 1600 م.د سنة 2016 (4,5 %) لتحافظ على نفس الحجم في تقديرات ميزانية 2017. ذلك أن الحكومة اعتمدت على التحكم في الكميات الموزعة وهو ما يفسر نقص بعض المواد في الأسواق (السكر و الزيت أساسا) وهي بذلك تدفع المواطنين إلى تعويضها  بمواد غير مدعمة و تهيئ للتخلي الكلي عن الدعم.
في المقابل وفي باب نفقات التدخل ترصد الميزانية 500 م.د  كمنحة للصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية بعد أن رصدت له ميزانية 2016 منحة بـ 300 م.د.  قد تساهم هذه المنح في تغطية جزئية لعجز الصندوق إلا أنها لا تشكل حلا جذريا. ذلك أن مشكلة الصندوق هيكلية و ما لم تفتح الحكومة ملف الصناديق الاجتماعية بجدية فان هذه المنح تتحول إلى إهدار للمال العام و تستر على الفساد و سوء التصرف.
ما يتبين إذن من خلال هذا التناول الموجز لنفقات التصرف أن التقشف شمل أساسا الأجور و دعم المواد الأساسية وهو ما يعني أن الموظفين و الأجراء و مجمل الشرائح الاجتماعية الضعيفة و المفقرة هي التي ستتحمل دون غيرها كلفة سياسة التقشف. هذه السياسة التي من المكن أن نجد لها تبريرا (ولو بشيء من التعسف) لو أنها انعكست ايجابيا على نفقات التنمية أو حجم المديونية.       
قدرت نفقات التنمية في ميزانية 2017 بـ 6210 م.د أي بزيادة قدرها 17,3 % مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2016  وهو ما يمكن أن يقرأ في ظاهره كمجهود إضافي من الدولة لدعم التنمية و دفعا للحركية الاقتصادية  إلا أن الوقوف عند بعض التفاصيل قد يقودنا إلى استنتاجات مغايرة تماما. ذلك أن الرجوع  إلى الميزانيات السابقة يبين أن نسبة تحقيق أو انجاز نفقات التنمية لم تتجاوز في المعدل عتبة الـ 50 %  أي أن ما يبرمج في كل سنة كنفقات تنمية هو في جزء هام منه إحالات لما لم يتم انجازه في السنوات السابقة. إذا اعتبرنا مثلا نفقات التنمية في ميزانية 2016 و البالغة نظريا 5400 م.د و لكن بنسبة انجاز لم تتجاوز 60 % و هو ما يعني أن 40 % من هذه النفقات أي 2160 م.د لم يقع صرفها و وقعت بالتالي إحالتها على ميزانية 2017  و بذلك فان صافي نفقات التنمية المبرمجة فعليا في ميزانية 2017 لا تتجاوز 4050 م.د (6210 – 2160). هذا الاستنتاج يتأكد بصفة جلية عند تفحص نفقات التنمية المبرمجة لسنة 2017 و التي تشكل في أغلبها مواصلة لبرامج و مشاريع قديمة (منها ما هو مبرمج منذ سنة 2010) هذا بالإضافة أنها انحصرت أساسا في مشاريع صيانة و تعهد أي دون مفعول تنموي مباشر.
في نفس السياق تواصل النفقات المخصصة للاستثمار المباشر للدولة تراجعها لتكون في مستوى 2500 م.د حسب تقديرات ميزانية 2017 أي بتراجع قدره 6,8 % مقارنة بنتائج 2016  و في المقابل واصل التمويل العمومي تضخمه ليكون في حدود 1687 م.د أي بزيادة قدرها 13 % مقارنة بالنتائج المحتملة لسنة 2016. و التمويل العمومي هو جملة المنح و الامتيازات و البرامج الموجهة للقطاع الخاص و هو ما يؤكد أمرين : أولا، القول أن عدم استثمار الدولة يعود إلى قلة مواردها مجانب تماما للحقيقة و ثانيا أن الحكومة  مارست التقشف على الشرائح و الفئات الاجتماعية الضعيفة و المتوسطة لتكون أكثر سخاء مع الرأسمال الطفيلي و القطاع الخاص عموما.
في أطار التمويل العمومي، رصدت ميزانية 2017 ما قدره 250 م.د (15 % من حجم التمويل العمومي) لتمويل ما سمي ببرنامج السكن الأول و هو في الحقيقة ليس إلا دعما للمضاربة في قطاع البعث العقاري و سنبين ذلك بأكثر تفصيل في النقطة الأخيرة من هذا النص. أما ما سنتوقف عنده الآن فهو ما تم رصده في إطار ميزانية وزارة التكوين المهني و التشغيل تحت عنوان "آليات معالجة سوق الشغل" و المقدر بـ 330 م.د (19,5 % من حجم التمويل العمومي) و الذي سيخصص لتمويل جملة من البرامج مثل برنامج "عقد الكرامة" و برنامج "فرصتي" و برنامج "دعم الاستثمار في الاقتصاد الرقمي".                
تهدف هذه البرامج في مجملها إلى مرافقة وتكوين المعطلين عن العمل خاصة من أصحاب الشهائد و مساعدتهم على بلورة مشاريع و الانتصاب لحسابهم الخاص أساسا في قطاع الخدمات (الإعلامية، الخدمات القانونية، الاستشارات، التسويق و الإشهار.....). من الطبيعي جدا و نظرا لإمكانيات التمويل المحدودة أن يكون قطاع الخدمات هو المجال الوحيد لانتصاب هؤلاء "الباعثين الجدد" إلا أن الاستثمار في هذا المجال يشترط وجود طلب مسبق و حيوي على هذه الخدمات وهو طلب لا يمكن أن يتحرك إلا في ضل حركية القطاعات المنتجة  (الصناعة و الفلاحة أساسا) أو بعض القطاعات الأخرى التي تمثل سوقا لهذه الخدمات كالسياحة مثلا.
لهذا من الوهم أن نتحدث عن مشاريع و استثمار في قطاع الخدمات في ظل تراجع الاستثمار و الإنتاج في القطاعات الأخرى وهو ما يفسر فشل مثل هذه البرامج في السابق حيث أن كل الميزانيات السابقة (على مدى ما يقارب العشرين سنة) تضمنت دائما عنوانا اسمه "التشجيع على الانتصاب للحساب الخاص" و لكن دون نتائج تذكر. يكفي أن نعود إلى ميزانية 2016 حيث تم بعث برنامج "فرصتي" و الذي كان من المفروض أن يشمل 50 ألف من طالبي الشغل ولئن لم تقدم وزارة التشغيل أي تقييم رسمي لهذا البرنامج فان معطيات غير رسمية (لكن موثوقة) تؤكد أن عدد المنتفعين من هذا البرنامج إلى حدود مراحله الأولى (التكوين و المرافقة) كان ضعيفا جدا و انه لم يفضي إلى بعث أي مشروع كما أن قرابة 80 % من الاعتمادات المرصودة أنفقت في التكوين و المرافقة أي أن هذا البرنامج لم يكن سوى "فرصة"  لتمكين الأصدقاء و المقربين من تحقيق دخل إضافي في إطار عقود المكونين و المرافقين. هذا بالإضافة إلى جملة الآليات القديمة (تربص الإعداد للحياة المهنية، برنامج العقد الأول، تحمل الدولة للكلفة الاجتماعية و جزء من الأجور للمنتدبين في المؤسسات الخاصة...) التي يقع تكرارها من ميزانية إلى أخرى رغم ثبوت فشلها.
الباب الأخير في النفقات يتعلق بخدمة الدين العمومي الذي يقدر في 2017 بـ 5825 م.د (رغم ارجاء تسديد القرض القطري) أي بزيادة قدرها 11 % مقارنة بنتائج 2016 (وهي تقريبا نفس النسبة التي ارتفع بها حجم الميزانية). وتقدر خدمة الدين الخارجي بـ 3460 م.د  أي بزيادة قدرها 52,6 % مقارنة بنتائج 2016. وهذا الرقم مرجح للارتفاع مع التدهور المنتظر لقيمة الدينار وهو ما سينتج ضغوطات إضافية على الميزانية و يدفع الدولة إلى تقليص نفقاتها الاقتصادية و الاجتماعية خاصة.
من خلال هذا العرض لهيكلة ميزانية الدولة يمكن أن نستخلص ما يلي:
·      تواصل نفس الخيارات التي تهمش دور الدولة (التراجع المتواصل للاستثمار العمومي) و تحمل الشرائح الاجتماعية المتوسطة و الضعيفة كلفة السياسات الفاشلة عبر ما سمي إجراءات استثنائية ثقلت كاهل هذه الفئات دون المس بمصالح لوبيات الفساد و التهرب الضريبي
·      أن سياسة التقشف (التي لا يمكن أن تكون مرفوضة في المطلق) كما تبرز في مشروع الميزانية لم تشمل سوى الموظفين و الأجراء و عموم الشرائح المهمشة (الضغط على الأجور و نفقات الدعم ) و لم تكن بغاية دعم دور الدولة عبر الترفيع في حجم الاستثمار العمومي المباشر القادر على إنعاش الاقتصاد بل كانت فقط بغاية توسيع امتيازات الرأسمال العالمي و الكمبرادور الطفيلي  دوائر الفساد
·      أن التغافل عن التهرب الضريبي و الاقتصاد الموازي و الاعتماد على "الإجراءات الاستثنائية" المذكورة لتجميع الموارد هو بحث عن الموارد حيث لا توجد . في المقابل تتضخم النفقات ببرامج و آليات فاقدة للجدوى وهو ما يخلق الشروط الموضوعية لمزيد من التداين.         
3. خلق الشروط  الضرورية لاستقالة الدولة و خوصصة الخدمات الاجتماعية.
من أكثر الإجراءات  إثارة للجدل هو ذلك المتعلق بتجميد الأجور و الانتدابات في الوظيفة العمومية. وهو ليس مجرد إجراء استثنائي أو ظرفي بل يتنزل في إطار توجه عام يهدف إلى "إعادة النظر في دور الدولة" و تقليص وظائفها. لهذا، فان التعاطي مع هذا الإجراء يجب أن يتخطى حدود القراءة السطحية التي لا ترى في تجميد الأجور مثلا إلا انعكاساته المباشرة على المقدرة الشرائية لعموم الأجراء و الموظفين.
أقر مشروع ميزانية الدولة لسنة 2017  تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية ( باستثناء وزارة الدفاع الوطني 3400 ، وزارة الداخلية 3500، وزارة المالية 45 وخريجي المرحلة العليا للوطنية للإدارة 50)  بما في ذلك الموجهة لتعويض المحالين على التقاعد (و عددهم 11249)  أو تعويض الشغورات المسجلة خلال السنة بسبب الاستقالة أو الوفاة أو الإلحاق. كما أقر نفس المشروع تأجيل صرف قسط سنة 2017  بعنوان البرنامج العام للزيادات في الأجور (600 م.د)  و تأجيل صرف قسط سنة 2017 بعنوان البرنامج الخصوصي للزيادات في الأجور (315 م.د)  إلى جانب تدابير استثنائية للتحكم في كتلة الأجور على غرار مزيد التحكم في برامج الترقيات  و التقليص من منح الساعات الإضافية  و مزيد التحكم وترشيد منح الإنتاج المسندة . تهدف جملة هذه الإجراءات إلى التحكم في كتلة الأجور حيث ستمكن من تخفيض  مناب الأجور من الناتج المحلي الخام من 14,4 % في سنة 2016 إلى 13,9 % سنة 2017.
يبدو هذا الإجراء في ظاهره محاولة من الحكومة للضغط على بعض النفقات أمام "صعوبة الظرف الاقتصادي والضغوطات المسلطة على ميزانية الدولة" و ضرورة  " تكاتف الجهود من أجل تقاسم عبئ تمويل نفقات الدولة خلال هذه المرحلة الحرجة" (مشروع قانون المالية صفحة 7). إلا انه في واقع الأمر ليس إلا شروعا في تنفيذ ما التزمت به حكومة العمالة تجاه صندوق النقد الدولي كما ورد في "رسالة النوايا". 
في إطار هذه الرسالة و تحت عنوان "إعادة هيكلة الوظيفة العمومية" التزمت حكومة العمالة  بالشروع بداية من شهر سبتمبر 2016 في تنفيذ خطة إصلاح تهدف أساسا إلى إعادة النظر في مهام و وظائف الدولة، التخفيض في عدد المشتغلين في الوظيفة العمومية، إعادة النظر في هيكلة الأجور و المنح و الضغط على كتلة الأجور لتتراجع إلى 12 % من الناتج المحلي الخام سنة 2020 و إعادة النظر في آليات تقييم الكفاءة و المسار المهني للموظفين. و لتنفيذ هذه الخطة تعهدت حكومة العمالة بتجميد الانتدابات في كل الوزارات على مدى السنوات الثلاث القادمة ما عدى وزارتي الدفاع و الداخلية. و الدخول بداية من  2017 (مع قانون المالية 2017 )  في برنامج للضغط على كتلة الأجور و حصر تطورها بنسبة التضخم وذلك عبر "عقلنة" و توحيد منظومة المنح  )الخصوصية ومنح الإنتاج)  و إلغاء الترقيات بالإضافة إلى الشروع بداية من 2018 في برنامج للتشجيع على المغادرة الطوعية للموظفين[7].
قد تمكن هذه الإجراءات من الضغط على نفقات الدولة (ولو أن هذا الضغط لا يمكن أن يكون هدفا في حد ذاته) إلا أنها تحمل الموظفين و الأجراء كلفة الأزمة و الخيارات الفاشلة كما تؤدي عبر تدهور القدرة الشرائية لهذه الشريحة إلى تراجع الطلب الداخلي و بالتالي نسبة النمو و إلى مزيد رهن الاقتصاد الوطني بتقلبات و إكراهات الأسواق العالمية. لكن الأهم و الأخطر من كل هذا، أن هذه الإجراءات تخلق الشروط الموضوعية لإقالة الدولة و خوصصة ما تبقى من المؤسسات العمومية و الخدمات الاجتماعية .
 يعتبر خبراء صندوق النقد الدولي أن "المعايير الدولية و العلمية" ( أية معايير ؟) تفترض أن لا يتجاوز عدد المشتغلين في القطاع العام في بلد ما 3%  من مجمل سكانه. في تونس يشغل القطاع العام 680.000    أي ما يعادل 5,37 % من مجمل السكان وهو ما يعني انه علينا أن نتخلص من نصف المشتغلين في القطاع العام استجابة لاملاءات صندوق النقد الدولي. إلا إن المؤشر الذي يعتمده  صندوق النقد ليس إطلاقيا بل هو فقط انعكاس مباشر للخصوصيات الديموغرافية (تهرم السكان) و الاقتصادية للبلدان الرأسمالية المتقدمة و لا يمكن في أي حال من الأحوال تعميمه. ويمكن أن نصل إلى استنتاجات مغايرة تماما لو اعتمدنا مؤشرا أخر أكثر موضوعية وهو نسبة مساهمة القطاع العام في التشغيل. ما عدى ألمانيا التي تمثل استثناء بـ 12 % ، تبلغ مساهمة القطاع العام في التشغيل 21,5%  في فرنسا  و23% في اليابان  و 19,5 في الولايات المتحدة.  نفس هذا المؤشر لا يتجاوز 18,5 % في تونس. لماذا إذن يصر صندوق النقد (في تونس كما في غيرها من البلدان) على ضرورة التنقيص في حجم المشتغلين في القطاع العام؟
التنقيص في حجم المشتغلين في الوظيفة العمومية (القطاع العام عموما) بالشكل الذي يرتئيه صندوق النقد (إلى حدود النصف ) يعني بكل بساطة أن تتخلى الدولة عن البعض من وظائفها. طبعا لا يمكن للدولة أن تتخلى عن و وظيفتها  الأمنية أو بالأحرى القمعية التي قد تزداد الحاجة إليها في الأيام القادمة (لهذا وقع استثناء وزارتي الدفاع و الداخلية من تجميد الانتدابات) أما يمكن التفويت فيه فيخص الوظيفة الاقتصادية (الشركات و المؤسسات العمومية) و الوظيفة الاجتماعية (الخدمات). ولئن  كان مسار الخوصصة الذي انطلق منذ 1986 (برنامج الإصلاح الهيكلي)  قد شمل العديد من المؤسسات العمومية فأن  صندوق النقد وبتواطؤ من حكومة العمالة يسعى إلى تعميق هذا المسار و توسيعه ليشمل حتى الخدمات الاجتماعية. ذلك أن التنقيص في عدد المشتغلين سيمس الخدمات التي تقدمها "الوزارات التقنية" (تأطير الفلاحين، التكوين المهني ، الإحاطة بالمنتجين الصغار..) و بشكل رئيسي وزارات الخدمات مثل التعليم و الصحة و النقل و الثقافة  التي تشكو بطبيعتها من شغورات و نقص كبير في الإطارات وهو ما سيدفع نحو مزيد تردي هذه الخدمات كشرط لفتحها أمام الرأسمال الطفيلي و الرأسمال العالمي الذي يعيش أزمة ضيق مجالات الاستثمار و انخفاض معدلات الربح. فما يسعى إليه صندوق النقد هو تحديدا فتح مجالات جديدة أمام الرأسمال العالمي عبر سلعنة الخدمات التي مازالت بعض الدول تؤمنها لمواطنيها.  
إلا أن الرأسمال العالمي و الكمبرادور الطفيلي المرتهن به لن يقبلا الاستثمار في هذه المجالات إلا بشرط ضمان الحد الأدنى من الربح عبر الضغط على كلفة الإنتاج  و هنا يتنزل الإجراء الثاني الخاص بتجميد الأجور التي تمثل أحد أهم عناصر هذه الكلفة . ذلك أن صندوق النقد يعتبرأن  أجور القطاع العام تشكل مرجعية لأجور القطاع الخاص (وهى مقاربة صحيحة). هذا يعني أنه كل ما ارتفعت الأجور في القطاع العام إلا و ارتفعت بالضرورة الأجور في القطاع الخاص. أي، قياسا، إذا أردنا الضغط على الأجور في القطاع الخاص و المحافظة على مستوياتها المتدنية لا بد من تجميد الأجور في القطاع العام. وهذا لا يخدم طبعا إلا مصلحة الشركات الرأسمالية الأجنبية التي تستثمر في القطر و الرأسمال المحلي الطفيلي الذي يستثمر في إطار المناولة لحساب هذه الشركات. وما يسعى إليه صندوق النقد هو تأبيد واقع تونس و غيرها من أشباه المستعمرات كخزان ليد عاملة رخيصة يقع استغلالها بشكل وحشي. على سبيل المثال تبلغ كلفة اليد العاملة في قطاع الصناعات المعملية في الساعة الواحدة  29  يورو في فرنسا، 33 يورو في ألمانيا، 10 يورو في البرتغال ، 32 دولار في الولايات المتحدة في حين  أن هذه الكلفة لا تتجاوز ,750  يورو في تونس.[8]
إن تجميد الأجور و الانتدابات في الوظيفة العمومية يتعدى إذن حدود تدهور المقدرة الشرائية للموظفين و الأجراء و تراجع الطلب الداخلي. بل أن هذا الإجراء في جوهره يتنزل في مسار قديم متجدد يهدف إلى تفكيك ما تبقى من النسيج الاقتصادي الوطني و إعادة هيكلته حسب ما تقتضيه مصالح الرأسمال العالمي و ضرب ما تبقى من المكاسب الاجتماعية و تحويل الدول إلى مجرد مكتب لتجميع الضرائب لتسديد الديون المتصاعدة.           
 4وهم العدالة الجبائية و تخفيف العبء على أصحاب الدخل الضعيف
تضمن مشروع قانون المالية 2017 جملة من الإجراءات الجبائية من بينها ما جاء في الفصل 15 الخاص بتنقيح جدول الضريبة على الدخل (كما هو مبين في الجدول أدناه) تحت عنوان تخفيف العبء الجبائي على أصحاب الدخل الضعيف و دعم العدالة الجبائية. لذلك وقع توسيع قاعدة الإعفاء من الضريبة على الدخل من 1500 إلى 5000 دينار مع تعميم الإعفاء ليشمل كل الأشخاص الطبيعيين (و ليس الأجراء فقط). وحسب مشروع قانون المالية، ينجر عن هذا الإجراء انعكاس سلبي على الموارد  الجبائية للدولة يقدر بـ 210 م.د .

تنقيح جدول الضريبة على الدخل
التشريع الحالي

مقترح مشروع الميزانية
شرائح الدخل السنوي
النسبة
 النسبة الفعلية في
 الحد الأقصى
شرائح الدخل السنوي  
النسبة
 النسبة الفعلية في
الحد الأقصى 
0 إلى   1500,000  د
0 %
0 %
0 إلى 5000  د
 0 %
0 %
1500,001 إلى 5000 د
15%
10.5 %
5000,001 د إلى 25000 د
27 %
21,6 %
5000,001 إلى 10000 د
20 %
15.25 %
25000,001  إلى 50000 د
30  %
 25.8 % 
10000,001 إلى 20000 د
25 %
20.12 %
50000 د  فما فوق
35 %
-           
20.000,001 إلى 50.000 د
30 %
26.05 %

50000 د فما فوق
35 %
-           

تسعى الحكومة من خلال هذا الإجراء إلى التسويق لصورتها كحريصة على إرساء العدالة الجبائية و تخفيف العبء على أصحاب الدخل الضعيف.  إلا إن التنقيح المقترح يحتوي الكثير من المغالطات وما التوسيع في قاعدة الإعفاء من الضريبة على الدخل إلا ذرا للرماد على الأعين. ذلك أن  مبدأ العدالة الجبائية يقتضي أولا التحيين الدوري لشرائح الدخل باعتبار تطور معدل أو متوسط الدخل السنوي و خاصة  باعتبار التضخم وما ينتج عنه من تدهور لمستوى الدخل الفعلي أو الحقيقي.
يعتمد التشريع الحالي سلما ضريبيا (شرائح الدخل السنوي) لم يقع تنقيحه منذ سنة 1990. إذا اعتمدنا أجرا سنويا بـ 1500 دينار سنة 1990 (معفى من الضريبة) فان ما يعادله سنة 2016 باعتبار التضخم (تطور مؤشر أسعار الاستهلاك) يقدر بحوالي 4800 دينار. أي أن توسيع قاعدة الإعفاء من الضريبة على الدخل إلى حدود دخل سنوي بـ 5000 دينار لم يغير في واقع الأمر شيئا مقارنة بما كان سائدا. كان من المفروض، حتى يمكن أن نتحدث عن تخفيف فعلي للعبء الجبائي على ضعاف الدخل، أن يقع توسيع شريحة الدخل المعفاة من الضريبة إلى حدود 10000 دينار سنويا.
في الطرف المقابل حافظ التنقيح المقترح على نفس الشريحة العليا 50000 د فما فوق و نفس نسبة الضريبة على الدخل (35 %). و اعتمادا على نسب التضخم فان ما يعادل 50000 دينار سنة 1990 هو تقريبا 130000 دينار سنة 2016. هذا يعني أن الفارق بين الحد الأدنى و الحد الأعلى للدخل السنوي قد اتسع مقارنة بسنة 1990 و أصبح من المفروض اعتماد شرائح دخل إضافية و تطبيق نسب ضريبية تصاعدية بما يضمن مساهمة اكبر للشرائح العليا إلا أن ما جاء به مقترح التنقيح معاكس تماما.
ذلك أن مقترح تنقيح جدول الضريبة على الدخل، عوض أن يعتمد شرائح إضافية، قلص عدد شرائح الدخل المعتمدة من ستة إلى أربعة عبر اختصار الثلاث شرائح الوسطى في التشريع الحالي (5000 د – 1000 د، 10000 د – 20000 د و 20000 د – 50000 د) في شريحتين في مشروع التنقيح (5000 د – 25000 د  و  25000 د – 50000 د) مع قفزة مذهلة في نسبة الضريبة على الدخل من 0 % للشريحة الدنيا إلى 27 % و 30 % للشرائح الوسطى التي حسب المعطيات تضم السواد الأعظم من الموظفين و الأجراء. و بذلك تكون الحكومة قد حملت كلفة توسيع قاعدة الإعفاء (الوهمي) من الضريبة على الدخل على كاهل الشرائح  والفئات الوسطى عوض تحميلها على ذوي الدخل المرتفع.
في المقابل، كما أشرنا سابقا،  حافظ مشروع التنقيح على نفس الشريحة العليا (50000 فما فوق) دون تفكيكها إلى شرائح إضافية، بالإضافة إلى أن نسبة الضريبة على الدخل لم تعرف نفس القفزة (من 0 % إلى 27 % و 30 %) بل اكتفت بارتفاع طفيف (5 %) لتحافظ على  نفس مستواها  المعتمد سابقا(35 %) وهو ما يعني أن الحكومة لا  تريد المس من مصالح هذه الشريحة عبر إخضاع دخلها لنسبة ضريبية ارفع. وتضم هذه الشريحة أساسا كبار موظفي القطاع العمومي (الموظفون السامون) أي نخبة الجهاز البيروقراطي التي تترجم التوجهات و الخيارات السياسية للحكومة إلى معطيات و أرقام ونسب و قوانين و إجراءات عملية.  كما تضم أيضا شريحة "المتصرفين(Managers) " في القطاع الخاص أي المكلفين بإدارة الشركات و المؤسسات الخاصة و الذين بخبراتهم و معارفهم العلمية و التقنية يؤمنون أرباح الكمبرادور الطفيلي. أخيرا تضم هذه الشريحة أيضا جزءا هام من الخاضعين للضريبة على الدخل من غير الموظفين و الأجراء. لذلك فإن كلفة تنقيح جدول الضريبة على الدخل (خسارة 210 م.د من الموارد الجبائية) لا يمكن ربطها بإعفاء ضعاف الدخل بل تعود أساسا إلى سعي الحكومة إلى المحافظة على مصالح ذوي الدخل المرتفع و عدم إخضاعهم إلى نسب ضريبية ارفع.   
بالنسبة للأجور و المرتبات، يحتسب الدخل الخاضع للضريبة على قاعدة الدخل الخام بعد طرح الخصوم الإجبارية (الأعباء الاجتماعية) و طرح المصاريف المهنية المحددة بصفة تقديرية بـ 10% مما تبقى بعد طرح الخصوم الإجبارية. كما يحق للأجراء التمتع بخصومات أخرى في أطار التخفيضات المشتركة ( رئيس عائلة، أطفال في الكفالة، والدين في الكفالة). إلا إن مشروع قانون المالية لسنة 2017 يقترح ترشيد طرح الأعباء المهنية بالنسبة للأجراء بضبط حد أقصى لها بـ 1000 دينار. أما بالنسبة للتخفيضات المشتركة فان التنقيح   لم يشمل المبالغ المعتمدة منذ سنة 1983 و التي لم يقع تحيينها باعتبار التضخم و ارتفاع كلفة العيش.
تحيين التخفيضات المشتركة (بالدينار)

المبالغ المعتمدة منذ 1983
المبالغ المحينة في 2016  باعتبار التضخم
رئيس عائلة
150
782
الطفل الأول
90
471
الطفل الثاني
75
393
الطفل الثالث
60
315
الطفل الرابع
45
246

لنعتبر حالة أجير له دخل سنوي صافي (بعد طرح الخصوم الإجبارية و الأعباء المهنية) يساوي 7000 دينار (حوالي 580 دينار شهريا) و لنفترض انه متزوج و له أربعة أطفال. حسب المبالغ المعتمدة، يتمتع الأجير بتخفيضات قدرها 420 د (150+ 90 + 75+ 60 + 45 ) و يكون الدخل الخاضع للضريبة في حدود 6580 د (7000 – 420) وهو ما يستوجب دفع ضريبة قدرها 426 د (حسب نسبة الضريبة على شريحة الدخل 5000 د إلى 25000 د).  إما إذا اعتمدنا المبالغ المحينة  فان التخفيضات المشتركة تصل إلى 2207 د (782 + 471 + 393 + 315 + 246)  ليكون الدخل الخاضع للضريبة في مستوى 4793 د (7000 – 2207) و يصبح بذلك معفى من الضريبة على الدخل و هو ما يعني بالنسبة لهذا الأجير ربحا جبائيا بـ 426 د  أو ما يقابل زيادة في أجره الشهري بـ 35 دينارا.
لهذا فان أي تنقيح  لجدول الضريبة على الدخل لضمان  حد أدني من العدالة الجبائية  و تخفيف العبء على أصحاب الدخل الضعيف  يتطلب ضرورة : 1- تحيين شرائح الدخل باعتبار مستويات التضخم، 2- الاعتماد على شرائح دخل اقل اتساعا بنسب أداء تصاعدية  تضمن مساهمة  اكبر لأصحاب الدخل المرتفع ،  3- تحيين التخفيضات المشتركة باعتبار نسب التضخم.
أخيرا، ما تغافل عنه (قصدا)  الفصل 15هو الحيف الجبائي المجحف الذي يطال الموظفين و الأجراء. ذلك أن الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين تشمل الأجور و المرتبات و كذلك الأرباح الصناعية و التجارية وأرباح المهن غير التجارية. إلا إن المعطيات الإحصائية تبين أن الموظفين و الأجراء يساهمون بـ 80 % من مجمل الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين. ذلك أن الموظفين و الأجراء محكومين بآلية الخصم من المورد في حين تعتمد الضريبة على باقي الأشخاص الطبيعيين على التصاريح الإرادية التي تصعب مراقبتها و التدقيق في صحتها في ظل ضعف الإدارة الجبائية و قلة مواردها المادية و البشرية. هذه المسألة على أهميتها لم يقع التطرق إليها و لو تلميحا لا في ميزانية 2017 و لا في الميزانيات السابقة و لا في مشروع الإصلاح الجبائي الذي عرضته وزارة المالية في ماي 2014.  
5.  معاقبة الملتزمين بالواجب الجبائي و التشجيع على التهرب الضريبي.
أحدثت بمقتضى الفصل47 من قانون المالية 2017  مساهمة ظرفية استثنائية بعنوان سنة 2017 لفائدة ميزانية الدولة. ويخضع لهذه المساهمة المؤسسات والشركات الخاضعة للضريبة على الشركات وكذلك المعفية منها و الأشخاص الطبيعيون من ذوي الجنسية التونسية الخاضعون للضريبة على الدخل في صنف الأرباح الصناعية والتجارية وأرباح المهن غير التجارية وأرباح الأنشطة الفلاحية والصيد البحري و المداخيل العقارية وكذلك المعفيون منها. و قد حدد الفصل 48 هذه المساهمة الظرفية بما يساوي 7,5 % من الأرباح المعتمدة لاحتساب الضريبة على الشركات أو من المداخيل المعتمدة لاحتساب الضريبة على الدخل و التي حل أجل التصريح بها خلال سنة 2017 . و حسب التقديرات، تؤمن هذه المساهمة الاستثنائية مداخيل إضافية لخزينة الدولة بحوالي 900 م.د.
هذا الإجراء قوبل بمعارضة شديدة من طرف أصحاب المؤسسات ممثلين في "اتحاد الصناعة و التجارة". في مذكرة حول قانون المالية لسنة 2017[9]  اعتبرت منظمة الأعراف " أن المؤسسة هي التي دفعت ومازالت تدفع إلى اليوم الثمن الأعلى لكل الانحرافات الاقتصادية والمالية" و أن الضريبة الاستثنائية ستكلف المؤسسات "حوالي 1077 مليون دينارا " و ستكون النتيجة، حسب نفس المذكرة، "تراجعا في الاستثمار بنسبة 12 بالمائة بسب تراجع قدرة التمويل الذاتي" و «خسارة حوالي 21000 موطن شغل" ليطرح ذلك السؤال التقليدي الركيك "إذا لم يتحرك الاستثمار(الخاص) بالنسق المطلوب في ظل الظروف الراهنة فكيف سنحقق النمو ؟ ". ولم يفت الوثيقة أن تذكر بـ "الترفيع المجحف للضغط الجبائي" على المؤسسات و "الارتفاع الكبير في حجم الأجور" الذي يستدعي " إصلاح ضروري وعاجل تقوم به الدولة فيما يتعلق بالنظام الأساسي للموظفين أو الخدمات المقدمة ونطاق تدخلها و حوكمتها" و "عجز المؤسسات العمومية" الذي يطرح " سؤالا ملحا حول بقائها وإلى متى سنستمر في الحفاظ على حياتها الاصطناعية التي تكلف المجموعة الوطنية مليارات الدينارات"  إلى جانب الكلفة الباهضة "للرعاية الاجتماعية" و "الدعم و صناديق التعويض الأخرى". كل هذه العوامل تشكل حسب منظمة الأعراف عوائق رئيسية وجب إزالتها بدل التفكير في مراجعة نسب الضريبة على الشركات.
رغم محاولات تغليفها بالحرص على التشغيل و دفع عجلة النمو الاقتصادي فان الحجج و البراهين المقدمة واهية وضعيفة لعدة أسباب يكمن أولها في عدم وجود علاقة ميكانيكية بين الضغط الجبائي و الاستثمار الخاص و بالتالي التنمية و التشغيل. وهو على الأقل ما  يؤكده  واقع الاقتصاد التونسي تحديدا حيث تمتع القطاع الخاص منذ قانون افريل 1972 بجملة من الامتيازات المالية و الإعفاءات الجبائية  التي أصبحت أكثر سخاء مع مجلة الاستثمار لسنة 1993 إلا أن الاستثمار الخاص بقى في معظمه طفيليا منكمشا في حلقات المناولة و المضاربة دون أن يكون له دور يذكر في إنتاج الثروة و التنمية و التشغيل. هذا يعني أن التخفيض في الضغط الجبائي لا يؤدي آليا إلى دفع الاستثمار و في المقابل  لا يؤدي الترفيع في هذا الضغط آليا إلى تراجع الاستثمار. وحده الرأسمال الطفيلي الذي يحقق أرباحه فقط على قاعدة الأجور المتدنية و الإعفاءات الجبائية المتتالية  يمكن أن يتأثر آليا بتغير النسب الضريبية.
أما السبب الثاني فيكمن في المغالطات التي بنيت عليها الاستنتاجات الواردة في المذكرة. فعلى عكس ما تدعيه منظمة الأعراف لم يرتفع الضغط الجبائي على المؤسسات بل أن هذه الأخيرة تمتعت بجملة من الامتيازات و التخفيضات على غرار ما ورد في الفصل 18 من قانون المالية لسنة 2014 الذي اقر تخفيض نسبة الضريبة على أرباح الشركات من 30% إلى 25 % . أما المغالطة الثانية فنجدها في تقييم المذكرة لأثر الضريبة الاستثنائية على المؤسسات حيث ستكلفها حوالي 1077 مليون دينار، هذا التقييم الذي أسقط عمدا من حساباته جملة الامتيازات التي منحها نفس قانون المالية لسنة 2017 تحت عنوان "استرجاع نسق النمو عبر دفع الاستثمار و تشجيع المبادرة الخاصة" أما الأهم فهو ما ستجنيه المؤسسات من تجميد الأجور (إن وقع تمريره) الذي يفوق بكثير ما ستدفعه في شكل ضريبة استثنائية. هذا دون أن ننسى ما تمنحه مجلة الاستثمارات من امتيازات مالية و جبائية للمؤسسات الخاصة و التي بلغت في السنوات الأخيرة معدلا سنويا بـ 1400 م.د. فالحديث إذن عن تضرر المؤسسات الخاصة في مجملها من إمكانية إقرار ضريبة استثنائية لا يخلو من المغالطات وهو يتنزل في إطار سعى  الكمبرادور الطفيلي إلى دعم مكاسبه عبر توسيع دائرة الامتيازات و الإعفاءات و تقليص مساهمته في الأعباء الجبائية.
بقطع النظر عما ورد في مذكرة منظمة الأعراف و ما احتوته من مغالطات، فإن إرساء ضريبة استثنائية بالشكل الذي ورد عليه في قانون المالية لا يخلو من الإشكاليات. أول إشكال يتمثل في عدم اعتبار تنوع النسيج الاقتصادي و خاصة الحضور المكثف للمؤسسات الصغرى و المتوسطة. ذلك أن أي ضريبة وخاصة لو كانت استثنائية لا يمكن أن تكون بنسبة موحدة بل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار حجم المؤسسات و حجم معاملاتها و أرباحها. أما الإشكال الثاني فيتعلق بطابعها الجملي حيث أنها اعتمدت على نفس النسبة (7,5 %)  لكل القطاعات في حين انه كان من المفروض أن تكون تفاضلية بمعنى أن نسبة الضريبة (استثنائية كانت أم عادية) على قطاعات المضاربة و القطاعات الغير منتجة يجب أن تكون أرفع مقارنة بالقطاعات المنتجة و الأكثر قدرة على التشغيل (الفلاحة و الصناعة أساسا). إلا أن الحكومة لم تقطع مع الخيارات السابقة التي تضع كل النشاطات في نفس السلة و لا تفاضل بينها إلا على أساس معايير السوق (الربح و الخسارة) وفي أحسن الحالات اعتمادا على مقياس "القيمة المضافة" المبهم و الفضفاض. وتجدر الإشارة أن هذه الإشكاليات ليست مرتبطة بالضريبة الاستثنائية فقط بل تخص النظام الجبائي في مجمله وهي في جوهرها نتاج مباشر للخيارات السائدة. لهذا لا يمكن تجاوزها إلا في إطار تصور تنموي بديل يقطع مع  هذه الخيارات ويعيد هيكلة الاقتصاد حسب أولويات جديدة ويعيد النظر في شروط و آليات الانخراط في الاقتصاد العالمي و تصبح الجباية انعكاسا لهذا التصور و احد آليات تحقيقه في الواقع.
آنيا، وفي علاقة مباشرة بقانون المالية، إن سن ضريبة استثنائية على أرباح الشركات تحت عنوان دعم موارد الدولة ليس إلا عقابا للمؤسسات الملتزمة بأداء الواجب الجبائي (دون اعتبار الاخلالات و الحيف الجبائي) و دعما و تشجيعا على التهرب الضريبي. ذلك أن المعنيين بهذه الضريبة الاستثنائية هم فقط  الملتزمون بدفع الضرائب على ما يحققونه من أرباح في الظروف العادية.
حسب معطيات وزارة المالية، 80 % من مجمل مردود الضريبة على أرباح الشركات متأتي من الشركات البترولية و البنوك و شركات التأمين التي لا تمثل إلا 5% من مجموع الشركات، أما الـ 95 % المتبقية فلا تتجاوز مساهمتها 20 %. وفي دراسة للبنك الدولي شملت 54731 مؤسسة خاصة سنة 2013 تبين أن 43 % صرحت بنتائج ايجابية (16 % صرحت بنتائج اقل من 1500 د) ، 38 % صرحت بنتائج سلبية و 19 % صرحت بنتائج تساوي الصفر. هذا يعني أن أكثر من 60 % من المؤسسات الخاصة تتهرب من الضريبة. كما أن نسبة الإعلان عن التصاريح الجبائية قد تراجعت من 75,7 % سنة 2009 إلى 40 % سنة 2013.
في ضل هذه المعطيات و في ضل التنامي المتواصل للتهرب الضريبي يصبح إجراء الضريبة الاستثنائية محاولة من الحكومة لتحميل المؤسسات الملتزمة بالجباية جزءا من كلفة التهرب الضريبي الذي لا تستطيع أو بالأحرى لا تريد مقاومته بشكل جدي. بل أكثر من ذلك، حسب الفصل 48، تخص هذه المساهمة الأرباح المعتمدة لاحتساب الضريبة على الشركات أو المداخيل المعتمدة لاحتساب الضريبة على الدخل و التي حل أجل التصريح بها خلال سنة 2017 (أي أرباح و مداخيل 2016). أي أن الضريبة الاستثنائية لا تخص أرباحا وقع التصريح بها وباتت معلومة و لا يمكن التراجع عنها (أرباح 2015 مثلا) بل أرباحا سيصرح بها لاحقا وهو ما يعطي فسحة من الوقت (إلى حدود شهر مارس 2017) للعديد من الشركات للتلاعب بحساباتها و التقليص في نتائجها المالية وهو تشجيع على التهرب الضريبي لا غير.
من ناحية أخرى، في الوقت الذي يقر فيه ضريبة استثنائية، يتغافل قانون المالية عن الأداءات المثقلة  المقدرة بحوالي 8000 مليون دينار. و الأداءات المثقلة هي الأداءات المثبة و المعترف بها بموجب تصريح إرادي أو مراقبة جبائية أو حكم قضائي أي أن المطالب بالأداء يعترف بما عليه و لكنه يمتنع عن الدفع. كان يكفي إذن استخلاص 15% من مجموع الأداءات المثقلة حتى تلغى كل الإجراءات الاستثنائية الواردة في قانون المالية  إلا أن الأحكام الواردة تحت عنوان " تحسين استخلاص الأداء و تدعيم موارد الميزانية" ( الفصول من 51 إلى 56 ) لم تشر ولو مجرد إشارة إلى الأداءات المثقلة بل تناولت مسائل جانبية مثل الخطايا المرورية و معلوم الجولان و المعلوم الموظف على الرحلات الجوية وطرح الفوائض على قروض السكن وكأن الحكومة تنوي التنازل عن مستحقات يكفي تطبيق القانون بالصرامة اللازمة لاستخلاصها.  
 أخيرا تحت عنوان "استرجاع نسق النمو عبر دفع الاستثمار و تشجيع المبادرة الخاصة " اقر مشروع قانون المالية إجراءا يهدف إلى تشجيع الشركات على إدراج أسهمها بالبورصة. لهذا يقترح الفصل 12 التخفيض في نسبة الضريبة على الشركات إلى 15 %  لمدّة خمس سنوات ابتداء من سنة الإدراج بالنسبة إلى الشركات الخاضعة للضريبة على الشركات بنسبة 25 % والتي تدرج أسهمها العادية بالبورصة بنسبة انفتاح لا تقل عن 30 % ابتداء من غرة جانفي 2017 .          
إلا إن هذا الإجراء فاقد لكل معنى باعتبار العدد المحدود للشركات المدرجة بالبورصة (حوالي 70 شركة) و المعدل الضئيل للإدراجات السنوية الجديدة (2 أو 3 في السنة). كما أن الفصل 12 لا يربط الإدراج في البورصة بشرط توسيع رأس المال بما يضمن زيادة في الحجم الحقيقي للاستثمار وبذلك يصبح الإدراج في البورصة مجرد عملية بيضاء تطرح من خلالها بعض الشركات أسهمها في البورصة لتنتفع بالتخفيض في نسبة الضريبة وهو ليس إلا تهرب ضريبي مقنن. هذا إلى جانب أن المجال الرئيسي لنشاط البورصة هو المضاربة و ليس الاستثمار كما أن مثل هذا الإجراء قد يخلق حالة من المنافسة الغير متكافئة بين الشركات المدرجة في البورصة وغيرها من الشركات. 

6. التواطؤ مع لوبيات الفساد و التهريب و الاقتصاد الموازي
 تضمن مشروع قانون المالية جملة من الفصول (من 33 إلى 46 ) تحت عنوان "التصدي للتهرب الجبائي والتشجيع على الاندماج في الاقتصاد المنظم مع دعم ضمانات المطالبين بالأداء". من الملفت للانتباه أن مصطلحات "الفساد " و "التهريب" لم ترد بتاتا في نص المشروع رغم تأكيدات الحكومة المتكررة على أن "محاربة الفساد" يشكل أولى أولوياتها. يبدو أن الحكومة  تحصر المسألة في التهرب الضريبي مع إشارة طفيفة للاقتصاد الموازي و كأنها تتحاشى المواجهة مع لوبيات الفساد و التهريب.
تبدو بعض الأحكام الواردة في مشروع قانون المالية في ظاهرها ايجابية في علاقة بمقاومة التهرب الضريبي  مثل عدم قبول طرح الأعباء والأداء على القيمة المضافة المتعلقة بالمبالغ المدفوعة إلى مقيمين بملاذات جبائية (الفصل 34)  و الأحكام الخاصة برفع السر البنكي (الفصلين 36 و 37 ) و تمكين مصالح الجباية من التقييم التقديري لمداخيل المطالبين بالأداء في إطار عمليات المراجعة الأولية (الفصل 38 ) و غيرها من الأحكام و الفصول. لكن تجدر الإشارة إلى أن كل قوانين المالية السابقة قد تضمنت العديد من الفصول و الأحكام الموجهة للتصدي للتهرب الضريبي (18 فصلا في قانون المالية 2016 تحت عنوان التصدي للتهرب الضريبي) دون نتائج ملموسة بل على العكس فان حجم التهرب الضريبي يواصل  تضخمه من سنة إلى أخرى. وهو ما يؤكد أن مقاومة التهرب الضريبي لا تستدعي فقط تشريعات و قوانين بل تتطلب أساسا توفر شرطين مترابطين : إدارة قوية و فاعلة و إرادة سياسة جدية.
حسب معطيات وزارة المالية[10]، يبلغ العدد الجملي لإطارات وأعوان المراقبة 3400 من بينهم 48 % أي حوالي 1600 مكلفون بعمليات المراقبة في حين يبلغ عدد المطالبين بالأداء (بدون احتساب الموظفين و الأجراء) 644248 أي ما يعادل عون مراقبة لكل 400 مطالب بالأداء. هذا بالإضافة إلى ضعف الإمكانيات المادية خاصة وسائل النقل (سيارة لكل 16 عون) و التجهيزات (حاسوب لكل 3 أعوان). لهذا فإن مردود مصالح الجباية يبقى ضعيفا جدا حيث لا تتجاوز تدخلاتها معدلا سنويا بـ 5500 عملية مراقبة جبائية أي بنسبة تغطية  في حدود 0,85 %  وهو ما يعني أن كل مطالب بالأداء يخضع في المعدل لعملية مراقبة جبائية مرة واحدة كل 117 سنة !!!!. في دول منظمة التعاون و التنمية الاقتصادية تبلغ نسبة التغطية حوالي 25 % و يخضع كل مطالب بالأداء في المعدل لعملية مراقبة كل أربع سنوات.
كان من الأجدى إذن عوض هذه النصوص القانونية و التشريعات المتراكمة الاستثمار في تحسين قدرة الإدارة على المراقبة الجدية و الصارمة (وهو استثمار جدي و ذو مردودية عالية و مباشرة) عبر انتدابات هامة وتكوين معمق و موجه للأعوان و وتوفير للوسائل المادية اللازمة. لكن يبدو أن الحكومة عبر تجميد الانتدابات  و التقشف الموهوم قررت المحافظة على ضعف الإدارة و عجزها الشبه تام عن المراقبة وهي بذلك تفسح المجال أمام التهرب الضريبي وهو ما يؤكد غياب الإرادة السياسية بل تواطؤ الحكومة والتحالف المكون لها  مع لوبيات الفساد و التهرب الضريبي.            
هذا التواطؤ مع لوبيات التهريب و الاقتصاد الموازي يبرز بشكل واضح في  الفصل 39 من قانون المالية الذي جاء فيه : "ينتفع التجار المتجوّلون الذين يمارسون أنشطة دون احترام أحكام الفصل 56  من مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات والذين يقومون بإيداع التصريح في الوجود المنصوص عليه بالفصل المذكور في أجل أقصاه 31 ديسمبر 2017 بصفة تلقائية وقبل تدخّل مصالح المراقبة الجبائية، بالإعفاء من الضرائب الأداءات و المعاليم والخطايا المستوجبة على مداخيلهم المحققة قبل تاريخ إيداع التصريح المذكور، وذلك شريطة دفع مبلغ 500 دينار. ويكون المبلغ المدفوع طبقا لأحكام هذا الفصل تحرريا من كل الأداءات و المعاليم المستوجبة".
في الوقت الذي تقر فيه الحكومة إجراءات استثنائية لتجميع موارد إضافية تعفي الباعة المتجولون من كل الأداءات و المعاليم المستوجبة  بمجرد دفع مبلغ تحرري بـ 500 دينار في تناقض تام مع المنطق العام الذي حكم قانون المالية. لكن الأخطر أن هذا الأجراء ليس في واقع الأمر إلا تبييضا للتهريب. فما يروجه الباعة المتجولون من بضائع متأتي أساسا من التهريب الذي يشكل هؤلاء الباعة أخر حلقاته و أضعفها بل إن اغلبهم يشتغل في إطار المناولة لأباطرة التهريب و الاقتصاد الموازي. كان من المفروض إذن التصدي الجدي و الصارم وبكل الوسائل المتاحة لأباطرة التهريب و منع دخول السلع والبضائع إلى الأسواق المحلية إلا أن الحكومات المتعاقبة اكتفت دائما بالتعاطي مع الظاهر من النتائج و حصرت مقاومة التهريب و الاقتصادي الموازي في الحملات الأمنية التي تقوم بها من حين لأخر ضد الباعة المتجولين و التي تنتهي في أحسن الحالات بحجز جزء من بضائعهم أو منعهم من الانتصاب في بعض الأماكن.
في نفس السياق يتنزل الفصل 39 من قانون المالية 2017 الذي بكل بساطة يسمح للباعة المتجولين بتسويق بضائعهم المهربة بكل حرية بمجرد دفع مبلغ تحرري بـ 500 د. وليس هذا الإجراء "تصديا للتهريب وتشجيعا على الاندماج في الاقتصاد المنظم"  أو حماية للباعة المتجولين و لا أيضا تفاديا لإمكانيات احتجاجهم  بل انه في جوهره رضوخا لضغط لوبيات التهريب. ذلك أن حرية الباعة المتجولين، كأدوات و قنوات لتسويق البضائع المهربة، تشكل إحدى الضمانات الرئيسية لتواصل التهريب و توسعه. من هذا المنطلق فان ما ورد في الفصل المذكور ليس إلا تبيضا للتهريب و تواطؤا مع لوبيات الاقتصاد الموازي. بالإضافة إلى دعمهم للأحزاب الحاكمة و تمويلهم لحملاتها الانتخابية، يكفي لأباطرة التهريب أن يدفعوا "جزية" أو "إتاوة " للحكومة حتى يمارسوا نشاطهم  .أما بالنسبة للباعة المتجولين فلن يغير هذا من الأمر شيئا فأغلبهم قد تعود دفع الرشاوى حتى يتمكن من الانتصاب و بيع بضائعه.      
7. تشجيع على المضاربة تحت عنوان إجراءات اجتماعية
تضمن قانون المالية 2017  جملة من الأحكام وردت تحت عنوان "إجراءات ذات طابع اجتماعي"  و إن كان بعضها لا يمت بصلة للمجال الاجتماعي مثل "مراجعة النظام الجبائي لألعاب الرهان والحظ واليانصيب" (الفصل 65) أو "إعفاء العربات والدراجات المستعملة في المجال الأمني والعسكري والديواني والحماية المدنية من معاليم الجولان " (الفصل 66). أما ما سنتناوله بالتحليل في ما يلي فهو ما ورد في الفصل 63 بعنوان إحداث خط تمويل لدعم قطاع السكن في إطار برنامج المسكن الأوّل.
حسب الفصل 63 من قانون المالية "تتولى الدولة إحداث خط تمويل بمبلغ 152 مليون دينار لفائدة الفئات متوسطة الدخل، يتم بمقتضاه توفير قرض ميسّر لتغطية التمويل الذاتي المطالب بها المنتفع قصد اقتناء مسكن أوّل منجز من قبل باعث عقاري. ويتم ضبط صيغ البرنامج وشروط الانتفاع بالتمويل على موارد الخط المذكور وإجراءات إسناده بمقتضى أمر حكومي."
في ظاهره يبدو هذا الإجراء في صالح الفئات الوسطى وذلك بتمكين الراغبين في اقتناء مسكن أول من الحصول على قرض ميسر لتغطية التمويل الذاتي (30 % من ثمن المسكن) الذي تشترطه البنوك التونسية للموافقة على منح قروض السكن. و لكن الواقع مغاير لذلك تماما، فمثل هذا الإجراء لا يهدف في جوهره إلا إلى  المحافظة على الإرباح المرتفعة في قطاع أصبح يشكل احد ابرز أنشطة  المضاربة و الفساد   
حتى بداية السبعينات من القرن الماضي كانت الدولة هي المتدخل الرئيسي في مجال السكن و البعث العقاري و ذلك عبر الشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية (SNIT) وشركة النهوض بالمساكن الاجتماعية (SPROLS). هذا الدور بدأ يتراجع تحديدا منذ سنة 1974 بعد سن جملة من القوانين و التشريعات التي فتحت المجال أمام الباعثين العقاريين الخواص للاستثمار في مجال تشييد وبيع المساكن. إلا أن الاستثمار الخاص في قطاع السكن و البعث العقاري لم يعرف تضخما ملحوظا و متواصلا إلا بدية من سنة 1990. ذلك أن مسار تحرير الاقتصاد في إطار برنامج الإصلاح الهيكلي و ما تبعه من اتفاقيات دولية افرز منافسة شرسة لم يكن الكمبرادور الطفيلي قادرا على مجابهتها. لذلك لم يجد هذا الأخير من حل سوى مغادرة القطاعات المنتجة المعرضة للمنافسة و اللجوء المتزايد إلى قطاعات المضاربة حيث الربح المضمون و السهل. وقد مثل قطاع السكن و البعث العقاري أحد أهم مجالات المضاربة خاصة مع:
·       دعم تحرير القطاع بداية من سنة 1990  بسن قوانين جديدة (القانون عدد 90-17 لسنة 1990 المنقح للقانون عدد 77-47 لسنة 1977) و إقرار جملة من الإجراءات تشجع "المبادرة الخاصة" و تمنح للباعثين العقاريين الخواص جملة من الامتيازات متعلقة بحقوق التسجيل و الإعفاءات الجبائية و المنح المالية قبل أن يقع إدراج القطاع ضمن قائمة القطاعات المنتفعة بمجلة الاستثمار لسنة 1993.
·      تشجيع البنوك على منح قروض السكن خاصة عبر التسهيلات و الامتيازات الممنوحة للقروض الموجهة لشراء مساكن جديدة منجزة من قبل الباعثين العقاريين و ذلك بهدف خلق قدرة شرائية وهمية قادرة على استيعاب ما يعرضه هؤلاء الباعثين حسب  ما تقتضيه أسعار و نسب أرباح المضاربة. هذا الإجراء كان أيضا في مصلحة الكمبرادور المصرفي الذي، بعد تراجع الاستثمار و الطلب على القروض في القطاعات المنتجة، وجد في قروض السكن مجالا لتثمين موارده.
جملة هذه الإجراءات جعلت من قطاع السكن نشاطا ملائما للمضاربة و يبرز هذا خاصة في الارتفاع المتسارع و المشط للأسعار. حسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء[11]،  ارتفع  السعر المتوسط للشقق الجديدة بنسبة 238 % (أكثر من ثلاث أضعاف) بين 2000 و 2015. و اعتمادا على بعض المعطيات المتوفرة حول كلفة الانجاز و أسعار البيع[12]، يحقق الباعثون العقاريون نسب أرباح تتراوح (حسب المدن و نوعية الشقق) بين 40 % و 166 % و هي نسب مرتفعة جدا لا تتحقق إلا في نشاطات المضاربة. هذا بالإضافة إلى اعتماد هذا القطاع أساسا على التشغيل الهش وتدني الأجور مقارنة بالقطاعات الأخرى[13]. كما تجدر الإشارة إلى أن قطاع البعث العقاري شكل أيضا أحد أهم مجالات الفساد و التهرب الضريبي حسب تقرير "اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة و الفساد".
نتيجة المضاربة يعرف القطاع منذ حوالي أربع سنوات أزمة (وهي أزمة مضاربة و ليست أزمة سكن كما يروج الخطاب الرسمي) تمظهرت أساسا في تراكم عدد الشقق الغير مباعة التي تجاوزت حسب بعض المعطيات 40000 شقة (24000 منها في تونس الكبرى). و تعود هذه الأزمة من جهة إلى ارتفاع الأسعار نتيجة المضاربة، و من جهة أخرى إلى تآكل المقدرة الشرائية للفئات الوسطى إلى درجة أصبحت فيها حتى القروض البنكية عاجزة على تنشيطها.
كان من المفروض في مثل هذا الوضع محاربة المضاربة عبر إجراءات تضغط على أسعار المساكن مثل إرساء ضريبة خاصة على المساكن الشاغرة و تسقيف نسبة الربح في القطاع (كأن نفرض مثلا أن لا يتجاوز سعر البيع كلفة الإنتاج زائد 10% أو 15 % كربح). مثل هذه الإجراءات يحد من المضاربة على أسعار المساكن و الأراضي و مواد البناء و بذلك يحد من الأسعار و يمكن الفئات المعنية من الحصول على مساكن بأسعار معقولة و دون الوقوع تحت طائلة التداين المجحف. هذا إلى جانب أنها ستدفع و لو نسبيا الرأسمال الطفيلي إلى الاستثمار في القطاعات المنتجة و الأكثر قدرة على المراكمة.
إلا أن ما ورد في مشروع الميزانية يبين أن حكومة العمالة و الفساد لم يكن يعنيها سوى المحافظة على المستويات المرتفعة لأسعار المساكن و بالتالي المحافظة على الأرباح الهائلة التي تحققها لوبيات الفساد في قطاع البعث العقاري. وهو ما سيدعم أكثر سلوك المضاربة  و يدفع نحو المزيد من تآكل المقدرة الشرائية للفئات الوسطى عبر إثقالها بالديون و رهنها لدى البنوك. يكفي أن نشير هنا أن قرابة 900.000 عائلة (60 % من مجموع العائلات) مدينة لدى البنوك و أن حجم التداين العائلي (لدى البنوك فقط) قد تجاوز 16 مليار دينار سنة 2014.

إحالات




[1] . وزارة المالية " مشروع قانون المالية لسنة 2017" أكتوبر 2016
[2] . Lettre d’intention de la Tunisie : Mémorandum des politiques économiques et financières  2 Mai 2016.                        https://www.imf.org/external/np/loi/2016/tun/fra/050216f.pdf     

[3]. مصطفى الجويلي "مبادرة الباجي قائد السبسي: تفاعلا مع أزمة قائمة أم استباقا لأزمة أعمق" 11 جوان 2016. http://mustaphajouili.blogspot.com/2016/06/blog-post.html

[4]  . مصطفى الجويلي "من الحوار الوطني إلى قانون المصالحة: الرأسمال الطفيلي الفاسد و مسار التحكم في المشهد السياسي التونسي" الحوار المتمدن-العدد: 4948 - 2015 / 10 / 7.   http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=487723
[5] . راجع على سبيل المثال : International Energy Agency « Medium-Term Energy Efficiency Market Report 2016 »
[6]  .  Banque Centrale de Tunisie « Evolutions monétaires et conjoncturelles et perspectives a moyen terme » Juillet 2016. http://www.bct.gov.tn/bct/siteprod/documents/Document_20160801.pdf                                                                                                                                   
[7] .             Lettre d’intention de la Tunisie : Mémorandum des politiques économiques et financières  2 Mai 2016.                   https://www.imf.org/external/np/loi/2016/tun/fra/050216f.pdf     

[8] . معطيات المنظمة الدولية للعمل 2013.
[9] . اتحاد الصناعة و التجارة " مذكرة: ملاحظات حول قانون المالية لسنة 2017". 3 نوفمبر 2016 .

[10] . وزارة المالية " إدارة الجباية: الواقع و الآفاق" ماي 2013
[11]. المعهد الوطني للإحصاء   2015  .Fiche technique de l’indice des prix de l’immobilier                                           http://www.ins.tn/fr/publication/fiche-technique-de-l%E2%80%99indice-des-prix-de-l%E2%80%99immobilier
[12] . Ministère de l’équipement, de l’habitat et de l’aménagement du territoire « vers une nouvelle stratégie de     l’habitat en Tunisie » Mai 2015.                                                                                                                                           
   http://www.mehat.gov.tn/fileadmin/user1/doc/Contenus/FR/ProjetStrategieHabitatTunisie15092015.pdf                                                                                                                                 
                                                                   
[13]. المكتب الدولية للعمل / مركز البحوث و الدراسات الاجتماعية. BIT & CERES : Enquête sur les structures des salaires, Tunisie  2011, http://www.cres.tn/uploads/tx_wdbiblio/Enquete_structure_salaire.pdf                                            
                                                                                                                                                                                  

2 commentaires:

  1. دمت مناضلا و دام قلمك سيفا جارحا في وجه اجرام الدولة و لوبيات الفساد

    RépondreSupprimer
  2. زاوية نظر تختلف عن تلك أرادها المظلّلون وأشباه الخبراء..بُعد نظر يسمح بالتدقيق في خفايا وأبعاد برنامج جزء معلن والآخر خفي..تحليل علمي لا يقدر عليه غير المتمكّن من أبجديات الاقتصاد السياسي..دمت ذخرا ومعطاءا..لا تبخل علينا بالمزيد مهما خطط البعض لإحباط المبدعين،أصدقاء الفئات الفقيرة والمهمّشة...تحياتي

    RépondreSupprimer