mercredi 22 juin 2016

التداين الخارجي ، آلية للهيمنة و التفقير

التداين الخارجي ، آلية للهيمنة و التفقير
تونس نموذجا
د. مصطفى الجويلي


"أصول الدين تعود إلى أصول الاستعمار. أولئك الذين قدموا لنا المال ٬ هم الذين استعمرونا. هؤلاء هم نفس الذين يحكمون الدول والاقتصاديات......إنهم الاستعماريون الجدد.......... الدين في شكله الحالي ٬ تسيطر وتهيمن عليه الامبريالية ٬ هو غزو منظم و بمهارة بحيث يصبح كل واحد منا عبدا ماليا........ يقولون لنا سددوا الديون. هذه ليست مسألة أخلاقية ٬ وهي ليست أيضا مسألة شرف مزعوم لسداده أو رفضه....... الدين لا يمكن رده أولا لأنه إذا لم ندفع ٬ الجهات المانحة لن تموت.كونوا متيقنين. لكن على العكس إذا أدينا الدين ٬ فإننا سنموت. كونوا متيقنين كذالك."
من خطاب توماس سانكارا  باديس أبابا في 29 جويلية 1987. بعد بضعة أشهر من هذا الخطاب أغتيل توماس سانكارا.

تاريخيا، بدأ التداين الخارجي يبرز بشكل واضح في تونس بداية من سنة  1830 حيث أدى اللجوء المفرط للأسواق المالية العالمية إلى تفاقم عبء الديون الخارجية و أجبر حكومة البايات على إعلان إفلاسها وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها المالية الخارجية. في سنة 1869 تم إحداث "الكومسيون المالي" وهو لجنة مالية دولية ، تضم ممثلي أهم الدول الدائنة،( إيطاليا وإنجلترا وفرنسا ) و قد مثل هذا "الكومسيون" أحد مظاهر التدخل الاستعماري من خلال إخضاع مالية الحكومة التونسية  للرقابة الدولية  وكان مقدمة للاستعمار الفرنسي المباشر سنة 1881.
خلال فترة الاستعمار المباشر تواصل لجوء الإدارة الاستعمارية إلى الديون الخارجية خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1948-1956). و بعد إمضاء بروتوكول 20 مارس 1956 و بتواطؤ من البنك العالمي  تم تحميل  ديون الإدارة الاستعمارية المتبقية على كاهل ميزانية الدولة التونسية بتعلة أن هذه الديون قد أنفقت لتحسين البنية التحتية في تونس.
في الواقع لم يكن بروتكول 20 مارس إلا إعلانا عن الانتقال من هيمنة امبريالية أحادية مباشرة على القطر إلى هيمنة غير مباشرة ومتعددة المراكز و قد قامت هذه الأخيرة على  عدة آليات من بينها التداين الخارجي. لهذا و منذ بداية ستينات القرن الماضي انخرطت دولة الاستعمار الجديد في سياسة التداين الخارجي مبررة ذلك بالحاجة إلى استيراد عوامل التنمية الغير متاحة محليا أي التكنولوجيا و الموارد المالية. وقد ارتفعت نسب التداين بشكل ملحوظ ، إلا أن الريع النفطي الذي وظف في مجمله لتسديد الديون مكن الدولة من البقاء خارج دائرة الإفلاس إلى حدود 1982-1984.
بداية من 1986 ومع تعمق الخيارات الليبرالية بتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي المملى من طرف المؤسسات المالية العالمية عرفت سياسة التداين منعرجا خطيرا. ذلك أن الديون المسداة من طرف هذه المؤسسات لم تساهم إلا في تعميق واقع الارتهان بالخارج و تفكيك النسيج الاقتصادي و الدفع نحو المزيد من التداين إلى حد الوصول إلى التداين لتسديد الديون المتراكمة. و قد واصلت حكومات ما بعد 14 جانفي في نفس سياسة التداين المجحف حفاظا على مصالح الطبقات الحاكمة رضوخا لاملاءات المؤسسات المالية العالمية.
في هذا المقال و اعتمادا على بعض المؤشرات سنحاول فهم و تحليل ظاهرة المديونية في تونس و إبراز خطورتها كآلية للهيمنة و سنقتصر فقط في تحليلنا على الديون الخارجية للدولة. لكن قبل ذلك ارتأينا أن نورد بعض الملاحظات المنهجية التي تبدو في نظرنا ضرورية.
1-      ملاحظات منهجية
من الطبيعي جدا إن نعتمد في تحليلنا لظاهرة المديونية على جملة من المؤشرات و المعطيات الإحصائية. إلا إن الأرقام و المؤشرات ليست محايدة بمعنى إن اختيارنا لمؤشر دون غيره لفهم ظاهرة ما يعكس تصورا و رؤية معينة في تعاطينا مع هذه الظاهرة. لهذا ارتأينا في البداية أن نشير إلى بعض المغالطات أو الأخطاء المتداولة (عمدا أو عن قلة معرفة)  لدى العديد من المهتمين بظاهرة المديونية بما في ذلك بعض المعارضين لسياسة التداين  و المطالبين بإسقاط كل الديون الخارجية .
كثيرا ما يعتمد "الخبراء" في رصدهم لتطور المديونية على مؤشر النسبة المائوية لحجم الديون في الناتج المحلي الخام، وهو نفس المؤشر المعتمد من طرف البنك المركزي التونسي و المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد و البنك العالمي). إلا أن هذه المنهجية تفتقد إلى الدقة و الموضوعية بل أنها تؤدي إلى  تشويه النقاش حول المديونية و نشر المغالطات. في الواقع لا يدل هذا المؤشر إلا على قدرة بلد ما على تحمل ديون جديدة كما لو أن اللجوء إلى التداين الخارجي ضرورة منطقية و مسألة حتمية كما يعتقد الفكر الاقتصادي الليبرالي. وهو ما يفسر اعتبار بعض "الخبراء" و كذلك محافظ البنك المركزي إن المديونية في تونس لا تشكل خطرا ما دامت نسبتها في الناتج المحلي الخام لم تتجاوز 60 % (النسبة القصوى المعتمدة من طرف المؤسسات العالمية). بشكل عام، إن اعتماد المؤشرات و "المعايير الدولية" في التعاطي مع مشكل المديونية يفتقد إلى المصداقية باعتبار أن الدين التونسي غير سيادي بما انه لا يسدد بالدينار بل بالعملة الصعبة و لذلك لا تستقيم المقارنة  مثلا بين  تونس و اليابان التي لا تعاني أزمة مديونية رغم أن قائم ديونها يمثل 140 % من ناتجها المحلي الخام.
أما الخطأ الثاني فيكمن في الاعتماد على مقارنة حجم الديون لفترة ما بالمبلغ المدفوع لتسديدها كأن نقول مثلا أن تونس اقترضت خلال فترة حكم المخلوع ما جملته 40 مليار دينار وأن خدمة الدين الجملية (أصل و فائدة) بلغت خلال نفس الفترة 48 مليار دينار. من هنا نستخلص أن تونس سددت أكثر مما تحصلت عليه من قروض وهو سبب كافي لتعليق تسديد كل الديون الخارجية.
هذا المنطق في التعامل مع ظاهرة المديونية بالإضافة إلى شعبويته يتسم بالسطحية ذلك أن منطق المنظومة الرأسمالية يجعل من الإقراض شكلا من أشكال توظيف رأس المال لتحقيق أرباح  من خلال الفوائد الموظفة على الديون أي بلغة أبسط لا وجود لديون بدون فوائض. ولو كانت المسألة متعلقة بالكلفة، أي الفائدة، لما أثارت قضية المديونية كل هذه الإشكاليات إذ يكفي فقط في هذه الحالة إن تكون أرباح المشاريع الممولة بالقروض اكبر من الفوائد الموظفة عليها.
لا يمكن طبعا أن ننفي أن الديون الخارجية بما يترتب عنها من فوائد تشكل كلفة باهظة و آلية للنهب إلا أن الاقتصار على هذا الجانب فقط  قد يحجب عنا جوهر المديونية كآلية لهيكلة اقتصاديات الدول المتداينة حسب مصالح الجهات المانحة و شركات الرأسمال العالمي و هنا تحديد تكمن خطورة المديونية كآلية للهيمنة الاستعمارية و النهب و التفقير.
أخيرا، أن التعاطي مع المديونية على أساس كلفتها فقط  قد يجرنا إلى السقوط في بعض المغالطات التي يروج لها الخطاب الرسمي  لتبرير اللجوء إلى المؤسسات المالية العالمية و الإذعان لكل املاءاتها. جوهر هذا الخطاب يستند إلى أن القروض الخارجية الخاصة (على الأسواق المالية العلمية ) تقترن بنسب فائدة اكبر من تلك الموظفة على القروض المتعددة الأطراف (لدى المؤسسات المالية العالمية) و هو ما يبرر اللجوء إلى هذه الأخيرة حتى لا نقع تحت طائلة الكلفة المرتفعة للديون الخاصة.
صحيح أن فوائد القروض الخاصة مرتفعة و لكن هذه القروض لا تقترن باملاءات وشروط. في المقابل، فان التداين لدى المؤسسات المالية العالمية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي....) عادة ما يكون بنسبة فائدة منخفضة نسبيا إلا أنه  يشترط تطبيق جملة من الاملاءات و السياسات  الاقتصادية والاجتماعية لا تخدم إلا مصلحة دوائر الرأسمال العالمي و هو بذلك أكثر خطورة من التداين على الأسواق المالية العالمية.
توجد العديد من المؤشرات التي يمكن استعمالها لفهم و تحليل ظاهرة التداين الخارجي. لكن لضيق المجال سنعتمد في ما يلي على مؤشر واحد نعتقد الأكثر مصداقية و الأكثر استجابة لهدفنا في هذا المقال.
2-  تطور حجم المديونية مقارنة بالموارد الذاتية للدولة
نعتمد في ما يلي على مؤشر يستند إلى مقارنة تطور قائم المديونية الخارجية بتطور الموارد الذاتية للدولة. تتكون موارد ميزانية الدولة من موارد الاقتراض (الداخلي و الخارجي) و الموارد الذاتية التي تنقسم بدورها إلى موارد جبائية و موارد غير جبائية. هذا يعني أن كل تراجع أو نقص في الموارد الذاتية للدولة يقع تعويضه بلجوء متزايد إلى التداين أو بشكل أخر أن التداين المجحف ليس إلا دليلا على عدم قدرة الدولة و عجزها على تجميع الموارد الذاتية الضرورية. أما قائم الدين فيتمثل في مجموع أصول و فوائد الديون الخارجية المتخلدة بالذمة بما في ذلك الديون المستحقة و التي لم تحل آجال تسديدها بعد و الديون المتأخرة. بشكل مبسط، قائم الدين هو المبلغ الجملي المستوجب دفعه للإيفاء بكل التعهدات إزاء الدائنين. أما المقارنة بين قائم الدين و الموارد الذاتية للدولة فتؤشر على قدرة الدولة على تحمل الديون و الإيفاء بتعهداتها المالية ولكن الأهم هو أن هذه المقارنة تمكننا من تبيان علاقة التأثير المتبادل بين تطور قائم الدين و تطور الموارد الذاتية للدولة.
يمثل الرسم البياني عدد1 تطور الموارد الذاتية للدولة و قائم الدين الخارجي بالمليار دينار بين 1986 و 2014. وقد اقتصرنا على هذه الفترة نظرا لغياب المعطيات الإحصائية الكافية. خلال هذه الفترة عرف قائم الدين ارتفاعا ملحوظا و متواصلا. أما بالنسبة للموارد الذاتية للدولة فقد سجلت بدورها نزعة نحو الارتفاع إلا إن حجمها بقى دائما دون مستوى قائم الدين الخارجي، بل أن ما نلاحظه هو النزعة نحو توسع الهوة بينهما أي أن قائم الدائن الخارجي تطور بنسق أسرع من نسق تطور الموارد الذاتية للدولة. وهو ما يعني أن الدولة موضوعيا مفلسة و عاجزة عن تسديد ديونها ففي سنة 2014 مثلا بلغ قائم الدين الخارجي نسبة 138 % من جملة الموارد الذاتية للدولة. في هذا السياق يصبح لجوء حكومات ما بعد الثورة إلى مزيد التداين بتعلة أن تونس مازال بإمكانها أن تقترض ما دامت نسبة الدين في الناتج الداخلي الخام  لم تتخطى حاجز الـ 60 % ليس إلا تواصلا للخيارات القديمة و هروبا إلى الإمام من خلال الاقتراض لتسديد الديون القديمة.
لكن ما هو جوهر العلاقة بين تطور الموارد الذاتية للدولة و تطور قائم الدين الخارجي؟ هل يمكن أن نقول مثلا أن التداين أدى إلى التراجع النسبي لموارد الدولة مما أدى بدوره إلى تفاقم المديونية؟               
كما أشرنا سابقا تتكون الموارد الذاتية للدولة من المداخيل الجبائية و المداخيل الغير جبائية و هي بذلك تمثل حصة أو مناب الدولة من الناتج المحلي الخام أي من الثروة الوطنية. من البديهي إذن أن يرتفع حجم هذه الموارد من سنة إلى أخرى و لكن الأهم من ذلك وحتى تتمكن الدولة من المحافظة على دورها و موقعها أن تتطور مواردها الذاتية بنفس نسق تطور الناتج المحلي الخام أي أن نسبة الموارد الذاتية في الناتج المحلي الخام يجب أن تكون في أسوء الحالات مستقرة.
 منذ سنة 1986 سجلت الموارد الذاتية للدولة تراجعا نسبيا حيث انحدرت نسبتها في الناتج المحلي الخام من 32,3 %  إلى 23 % سنة 2007 و لئن عرفت هذه النسبة تحسنا طفيفا فإنها لم تتجاوز 24 % سنة 2014. لم يكن هذا التراجع في حقيقة الأمر إلا نتيجة مباشرة لجملة السياسات المملات من طرف المؤسسات المانحة و المقترنة بالديون.                                     
في أواسط ثمانينات القرن الماضي عرفت تونس كغيرها من أشباه المستعمرات أزمة اقتصادية خانقة كان عنوانها الأبرز تفاقم الديون الخارجية و عجز الدولة عن الإيفاء بتعهداتها المالية. أمام هذه الأزمة أختار نظام العمالة للحفاظ على استمرار يته  أن يخضع لاملاءات المؤسسات المالية العالمية و أساسا البنك العالمي و صندوق النقد الدولي. ذلك أن هذه المؤسسات تدخلت بداية من سنة 1986 لتمنح تونس جملة من القروض إلا أن هذه القروض كانت مرتبطة بضرورة تطبيق جملة من السياسات و الخيارات الليبرالية في إطار ما سمى بـ "برنامج الإصلاح الهيكلي ". في نفس السياق كانت القروض الممنوحة من طرف الاتحاد الأوروبي مشروطة بإمضاء ما يعرف بـ "اتفاق الشراكة" سنة 1995. إلا أن هذه القروض التي منحت تحت عنوان مساعدة تونس على تجاوز أزمتها و الخروج من دائرة التداين المجحف لم تؤدي في واقع الأمر، عبر تأثيرها السلبي على موارد الدولة، إلا إلى مزيد من التداين.
تضمن "برنامج الإصلاح الهيكلي" جملة من السياسات الليبرالية تمحورت أساسا حول تحرير الأسعار و التجارة الداخلية و الخارجية و الاستثمار و خوصصة المؤسسات العمومية. و تهدف هذه الإجراءات أساسا إلى تعميق مسار الانفتاح على الأسواق العالمية و تقليص دور الدولة  لصالح آليات السوق و "المبادرة الخاصة". في هذا الإطار و تحت عنوان تشجيع الاستثمار الخاص و جلب الاستثمار الأجنبي ودعم الصادرات احتوت " مجلة الاستثمار 1993" جملة من الحوافز و التشجيعات و الإعفاءات الجبائية انتفعت بها بشكل خاص المؤسسات المصدرة (كليا أو جزئيا). وقد أدت هذه الإجراءات إلى التراجع النسبي لموارد الدولة المتأتية من الأداء على أرباح الشركات.  و أذا اعتبرنا فقط الفترة 1994-2007 فان خسائر ميزانية الدولة المتأتية من هذه الإجراءات تقدر بـ  2 % من الناتج المحلي الخام، 11 % من الموارد الجبائية و حوالي 7 % من مجمل موارد الميزانية.
هذه النزعة نحو تراجع الموارد الذاتية للدولة تعمقت أكثر بتراجع الموارد المتأتية من المعاليم الديوانية خاصة بعد إبرام اتفاقية المنظمة العالمية للتجارة (1994) و اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي(1995). ذلك أن هذا الأخير اعتمد أساسا على الإلغاء التدريجي للمعاليم الموظفة على الواردات.  
كما يبين الرسم البياني عدد2 سجلت المعاليم الديوانية تراجعا نسبيا متسارعا بداية من 1996 لتنخفض نسبتها في الموارد الذاتية للدولة من 15,4 %  إلى 3,6 % سنة 2014. خلال نفس الفترة تراجعت هذه النسبة من 19,6% إلى 3,9% مقارنة بالموارد الجبائية و من 3,9 % إلى  0,9 %  مقارنة بالناتج المحلي الخام. أما مقارنة مع قيمة الواردات فقد تراجعت نسبة المعاليم الديوانية من  9,9 % سنة 1996 إلى 1,7% سنة 2014.
بالإضافة إلى الموارد المتأتية من الأداء على الشركات و المعاليم الديوانية، تراجعت الموارد الغير الجبائية لتنحدر نسبتها في الناتج المحلي الخام من 9  % سنة 1986 إلى 2 %  سنة 2014  و يعود هذا التراجع أساسا إلى انخفاض المداخيل المـتأتية من المؤسسات  العمومية نتيجة للصعوبات التي تعانيها هذه المؤسسات  و لسياسة الخوصصة التي توسعت بعد 1994 لتشمل حتى المؤسسات الرابحة (بنوك ، شركات إسمنت......). عموما أدى التراجع الملحوظ لموارد الدولة إلى لجوء متزايد على التداين الخارجي إلى حد الوصول إلى ما يسمى "حلقة التداين"  حيث أصبحت مضطرة للتداين لا  لتمويل نفقاتها العادية بل لتسديد ديونها المتراكمة.
من خلال ما تقدم يمكن أن  نتبين مدى خطورة التداين الخارجي لا من حيث كلفته فحسب بل من حيث  رهن الاقتصاد الوطني لاملاءات المؤسسات المالية العالمية. ذلك أن هذا التداين اقترن بجملة من السياسات التي تهدف إلى هيكلة الاقتصاد التونسي حسب مصالح  الدول المانحة و شركات الرأسمال العالمي. إلا إن هذه السياسات عبر تأثيرها السلبي على موارد الدولة تعيد إنتاج الحاجة إلى المزيد من التداين.  أي أن التداين الخارجي كآلية للهيمنة الاستعمارية لا يؤدي في نهاية الأمر إلا مزيد من التداين وبالتالي تجديد آليات الهيمنة.
3-     من يتحمل كلفة المديونية
خلال الفترة 2010-2015 بلغت خدمة الدين 25,7 مليار دينار  و بذلك تكون الدولة قد خصصت ما يقارب 21,6% من نفقاتها لتسديد ديونها. و قد مثلت خدمة الدين لنفس الفترة 23 % من مجمل الموارد الذاتية للدولة. إلا أن الموارد الذاتية للدولة متكونة بأكثر من 80% من موارد جبائية و هذا يعني أن دافعي الضرائب هم من يتحمل الجزء الأكبر من كلفة تسديد الديون و لكن تبقى المسالة في حاجة إلى أكثر تفصيلا وهو ما يقتضي قراءة لتطور هيكلة الموارد الجبائية.
كما رأينا في العنوان السابق، عرفت الموارد الذاتية للدولة تراجعا نسبيا ملحوظا نتيجة لتراجع الضرائب الموظفة على أرباح الشركات و المعاليم الديوانية. لهذا كان لزاما على الدولة تعويض هذه الخسائر و لو جزيئا حتى لا يتخطى تداينها الحدود المسموح بها من طرف المؤسسات العالمية و أيضا حتى تضمن تسديد ديونها المتراكمة لتحافظ على مصداقيتها لدى نفس المؤسسات هذا طبعا دون المساس بمصالح المؤسسات الخاصة  أو التضييق على توريد السلع الأجنبية.
تمثل الحل الأول في زيادة الضغط الجبائي على الموظفين و الأجراء و لهذا ارتفعت مساهمة الأجراء و الموظفين في مجموع الاداءات المباشرة من 34 % سنة 1986 إلى 46 % سنة 2015. إلا أن هذا الحل يبقى محدود الجدوى على الأقل لسببين. يتمثل السبب الأول في ضعف القاعدة الجبائية للأجور و المرتبات نظرا لمحدودية التشغيل (تفشي البطالة) و ضعف متوسط الأجور وهو ما يعني أن الترفيع في الضغط الجبائي على الموظفين و الأجراء لا يؤدي إلى ارتفاع هام في الموارد الجبائية. أما السبب الثاني فيتمثل في أن زيادة الضغط الجبائي تؤدي إلى انخفاض مباشر و ملموس في للأجور وهو ما قد يتسبب في حالة من الاحتقان و الاحتجاج الاجتماعي.  
لتجاوز هذه الإشكاليات تم اللجوء إلى الاداءات الغير مباشرة كالأداء على الاستهلاك و خاصة الأداء على القيمة المضافة لتعويض الخسارة الناجمة عن تراجع المعاليم الديوانية كما هو مبين في الرسم البياني عدد 3. على سبيل المثال تضاعف حجم الأداء على القيمة المضافة بين 1986 و 2015 بإحدى عشر مرة و ارتفعت  نسبته في مجمل الاداءات الغير مباشرة من 34 % إلى حوالي 50 % . في نفس الفترة تراجعت مساهمة المعاليم الديوانية من 22 % إلى 7,5 %.       
 
من خلال ما تقدم يكمن أن نستنتج أن التداين الخارجي وما صاحبه من أملاءات و الحاجة إلى رصد الموارد لضمان تسديد هذه الديون قد أحدثا تغييرات هامة على مستوى هيكلة الموارد الجبائية للدولة تمثلت أساسا في تزايد الضغط الجبائي على الموظفين و الإجراء و الاعتماد المتزايد على الاداءات الغير المباشرة. هذا النوع من الأداء وان كان لا يمس مباشرة الدخل أو الأجر فهو ينعكس في شكل ارتفاع في أسعار السلع و الخدمات وهو ما يعني المقدرة الشرائية للشرائح المتوسطة و الضعيفة خاصة.  أي أن الأجراء و الموظفين و عموم الفئات المهمشة و المفقرة هي من يتحمل  الجزء الأكبر من كلفة الديون و أعباء تسديدها.
الأخطر أن مثل هذا التمشي يحظى بدعم كبير من طرف صندوق النقد الدولي. في تقرير له لسنة 2012 يرى خبراء الصندوق أنه " يمكن أن نجعل النظام الضريبي أكثر ملائمة للشركات.....تشير المقارنة مع اقتصاديات صاعدة أخرى أن الضغط الجبائي على المؤسسات مرتفع نسبيا في تونس و أنه من الممكن أيضا الترفيع من مردود الأداء على الاستهلاك. بالتالي فإن تخفيضا في الأداء على أرباح الشركات تقابله زيادة في نسبة الأداء على القيمة المضافة مع توسيع قاعدته يمكن أن تكون حافزا للنمو."
من ناحية أخرى، باعتبار أن الديون التونسية ديون غير سيادية، فأن تسديدها لا يتم بالدينار بل بالعملة الصعبة التي  تمثل مداخيل الصادرات أهم مصدر لها. لهذا كان دعم و تعميق النزعة التصديرية احد أهم ركائز برنامج الإصلاح الهيكلي المملى من طرف المؤسسات المالية العالمية. و نظرا لتخلف النسيج الصناعي و تمركزه في نشاطات المناولة فان المحافظة على القدرة التنافسية للصادرات التونسية لم تكن ممكنة عبر تحسين الإنتاجية و التجديد التكنولوجي بل ارتكزت أساسا ، إلى جانب الإعفاءات الجبائية، على آليات الضغط على الأجور و التخفيض من قيمة الدينار مقارنة بالعملات الأجنبية. وهي نفس الآليات المعتمدة لجلب الاستثمار الأجنبي كشرط ضروري للتنمية حسب نفس المؤسسات المالية العالمية.
نظرا للضغط المتواصل على مستوياتها لم تكن الأجور قادرة على مجارات نسق التضخم الذي تفاقم أكثر مع تدهور قيمة الدينار مقارنة بالعملات الأجنبية. خلال الفترة 1986-2014 تدهورت قيمة الدينار بنسبة 54% مقارنة بالدولار الأمريكي  أما مقارنة باليورو فقد تدهورت قيمة الدينار التونسي بنسبة 44 % بين 1999 و2014. و إذا كان هذا التراجع لقيمة الدينار يرتبط باستعمال هذه الإلية لدعم الصادرات و جلب الاستثمار الأجنبي فانه تفاقم أكثر مع اللجوء المتزايد للتداين الخارجي. ذلك ضرورة تسديد الديون بالعملات الأجنبية إلى جانب توسع عجز ميزان الدفوعات الخارجية خلقا طلبا متزايدا على هذه العملات وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعارها أي إلى تدهور قيمة الدينار مقارنة بهذه العملات.  
نظريا، يمكن لتراجع قيمة الدينار أن تخلق تنافسية وهمية للصادرات و ذلك عبر انخفاض أسعار البضائع التونسية المصدرة بالعملة الأجنبية. إلا أن تدهور قيمة الدينار يؤدي في نفس الوقت إلى ارتفاع الأسعار بالدينار  لكل السلع المستوردة وهي سلع معدة للاستهلاك المباشر أو لإنتاج سلع أخرى. وفي جميع الحالات فالنتيجة هي ارتفاع الأسعار عند الاستهلاك في السوق المحلية و تسارع وتيرة التضخم. هذا التضخم إلى جانب الضغط المستمر على الأجور ساهم في تدهور المقدرة الشرائية للأجراء و الموظفين وتوسيع دائرة التفقير و التهميش.
أخيرا، أمام تفاقم الميونية و ارتفاع خدمة الدين تزايد عبء تسديد الديون على ميزانية الدولة خاصة و أن التدهور المستمر للدينار التونسي أدى إلى ارتفاع قيمة الديون (بالدينار). أمام هذا الوضع لم تجد الدولة من خيار سوى الضغط على نفقاتها و أساسا النفقات ذات الطابع الاقتصادي و الاجتماعي.  خلال الفترة 2010-2015 بلغت خدمة الدين 25,3 مليار دينار و تجاوزت بذلك نفقات التنمية (24,3 مليار دينار) و مثلت مرتين و نصف حجم الاستثمار المباشر للدولة (10,2 مليار دينار). إي أن المديونية أدت إضعاف قدرة الدولة على التدخل وهو ما ساهم إلى حد كبير في ركود الاقتصاد و تفشي البطال و استفحال التفاوت الجهوي و حرمان شرائح اجتماعية واسعة من حقها في التمتع بالخدمات الاجتماعية الضرورية و اللائقة.
4-    بعض الملاحظات الختامية
من خلال ما تقدم يمكن أن نتبين بوضوح مدى خطورة التداين الخارجي كآلية للهيمنة لا تخدم إلا مصالح دوائر الرأسمال العالمي و وكلائه المحليين. في حين أن الشرائح المفقرة و المهمشة هي من يتحمل الكلفة الاقتصادية و الاجتماعية لتداين قد يتفاقم أكثر و يزيد الوضع تعقيدا مع سياسة الهروب إلى الإمام المتبعة من طرف حكومات ما بعد 14 جانفي.
أمام خطورة هذا الوضع، طالبت بعض الاحزاب السياسية و المنظمات و الخبراء بضرورة  إلغاء الديون السابقة أو على الأقل تعليق تسديدها لفترة زمنية محددة في انتظار عملية تدقيق شامل لهذه الديون. ويأتي هذا المطلب في سياق حركة عالمية متنامية منذ سنوات لإسقاط كل ديون ما يسمى "العالم الثالث". ويستند هذا المطلب و هذه الحركة على جملة من النصوص القانونية و المعاهدات الدولية التي تسمح للدول بتعليق العمل بتعهداتها الدولية، و منها الديون، في حالات معينة كحالات الأزمة الاقتصادية أو في صورة تعارض هذه المعاهدات مع الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية.
إلا أن مسالة إسقاط الديون تبقى في نهاية الأمر مسالة سياسية أي مسالة موازين قوى طبقية ذلك أن الطبقات الحاكمة و الأحزاب الممثلة لها لا يمكن أن تسقط الديون و ،ضرورة، الخيارات المرتبطة بها التي تشكل إحدى شروط تواجدها واستمرارها في الحكم. من ناحية أخرى، لا يمكن لإسقاط أو تعليق تسديد الديون أن يكون حلا لإشكالية التداين الخارجي  ما لم نتجاوز الشروط الموضوعية التي أنتجته. وهو ما يقتضي القطع مع الخيارات الليبرالية و سياسة الارتهان لدوائر الرأسمال العالمي أي بديلا تنمويا مغايرا تكون ركائزه الأساسية السيادة الوطنية و  حيوية دور الدولة و العدالة الاجتماعية. وهذا لا يعني رفضا للتداين في المطلق بل إخضاعه لشروط و آليات جديدة.







samedi 11 juin 2016

مبادرة الباجي قائد السبسي: تفاعلا مع أزمة قائمة أم استباقا لأزمة أعمق

مبادرة الباجي قائد السبسي: تفاعلا مع أزمة قائمة أم استباقا لأزمة أعمق
في حواره على القناة الوطنية الأولى ليوم الخميس 02 جوان 2016  تقدم  رئيس الدولة بمبادرة لتشكيل "حكومة وحدة وطنية" تضم إلى جانب أحزاب الائتلاف الحاكم  وجوبا الاتحاد العام التونسي للشغل و اتحاد الصناعة و التجارة و"أحزاب المعارضة إن رغبت في ذلك". ولئن انحصر النقاش في المنابر الإعلامية حول المواقف و ردود الأفعال المتباينة – بين القبول والتردد و الرفض- فإن السؤال الرئيسي يتعلق في نظرنا بمبررات وخلفية هذه المبادرة و توقيتها.
يذهب البعض إلى الجزم بأن مبادرة السبسي جاءت لتعبر عن أزمة  الحكومة و فشلها وإن دعوته لتشكيل "حكومة وحدة وطنية" ليست إلا محاولة لتعميم الفشل بحيث لا يتحمل الائتلاف الحاكم لوحده المسؤولية السياسية كاملة، هذه الفرضية، وان كانت تحتوي بعضا من الحقيقة، تبقى في نظرنا ضعيفة. ذلك أن السبسي لم يعترف صراحة بفشل الحكومة بل بالعكس اعتبر أن " هذه الحكومة قامت بما يجب أن تقوم به حسب الإمكانيات المتوفرة لديها" و تحدث فقط على "صعوبات" تقف وراءها كثرة الاحتجاجات و التهديدات الإرهابية و الوضع الغير مستقر في ليبيا. من ناحية أخرى فان الاحتقان الاجتماعي و إن تواصل فانه لم يرتقي إلى المستوى الذي يعمق أزمة الحكومة و يجبر رئيس الدولة على تقديم مبادرة لإنقاذها.
إذا لم تكن المبادرة تفاعلا مباشرا مع ما حدث إلى حد ألآن، أي تجاوزا للفشل ومحاولة لتعميمه، فهل يمكن أن تكون استعدادا لما سيحدث، أي استباقا لأزمة خانقة قد تحدث في المستقبل القريب؟  
نصف الإجابة نجده في التصريح الذي أدلى به محافظ البنك المركزي على هامش الملتقى الذي نظمه المعهد العربي لرؤساء المؤسسات يوم الجمعة 03 جوان 2016 (مباشرة بعد حوار السبسي). بعد أن أشار إلى صعوبة الوضع الاقتصادي، اعتبر محافظ البنك المركزي أن تحرير الاقتصاد أصبح يمثل أكثر من أي وقت مضى الحل المناسب لتعبئة الموارد الخارجية الضرورية  لتمويل الإصلاحات و تغطية عجز الميزانية. هذا العجز، الذي في نظره يعود أساسا إلى تضخم كتلة الأجور، لن تتمكن الدولة من تغطيته سنة 2017 دون الحصول على قروض خارجية إضافية. هذا الخطاب ليس في الحقيقة إلا تبريرا لمزيد من التداين وما يصاحبه من  تطبيق للخيارات المملات من طرف المؤسسات المالية العالمية التي يبدو أن ضغوطاتها أصبحت أكثر جدية.    
تصبح الإجابة أكثر وضوحا بالرجوع إلى "رسالة النوايا (lettre d’intention)" الموجهة من طرف الشاذلي العياري محافظ البنك المركزي و سليم شاكر وزير المالية إلى كريستين لاغارد المديرة العامة لصندوق النقد الدولي بتاريخ 2 ماي 2016. (هذه الرسالة التي وقع تسريبها كان من المفروض أن تنشر للعموم احتراما لأبسط مبادئ الشفافية و الديمقراطية). ليست هذه المراسلة الأولى بين الحكومة و صندوق النقد الدولي كما أنها لم تخرج عن الإطار العام لاملاءات صندوق النقد، إلا أن أهميتها تكمن في كونها تحمل في طياتها، و لأول مرة، التزامات واضحة و دقيقة و بآجال محددة. أي أن ما احتوته هذه الوثيقة هو برنامج مفصل للسنوات القليلة القادمة تبدو الحكومة بتركيبتها الحالية غير قادرة على تنفيذه. لذلك فإن تنفيذ هذا البرنامج يتطلب حكومة جديدة رسمت مبادرة قائد السبسي ملامحها الكبرى.  
I-   رسالة النوايا: برنامج الحكومة المرتقبة
في هذه الرسالة تقدمت الحكومة بطلب لصندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 2,8 مليار دولار (تمت الموافقة على هذا القرض و تحصلت الحكومة في 24 ماي 2016 على 319 مليون دولار كدفعة أولى) مقابل الشروع في تطبيق "برنامج إصلاح اقتصادي و مالي" يمتد على أربع سنوات (2016-2020). وبمقتضى "بروتوكول الاتفاق الفني" تتولى مصالح صندوق النقد المراقبة المباشرة لسير و تنفيذ البرنامج و تقترح إجراءات تعديلية عند الضرورة. تكون المراقبة في شكل دورات سداسية (مرة كل ستة أشهر) حددت الأولى في 31 ديسمبر 2016 و الثانية في 30 جوان 2017.   
أما تفاصيل البرنامج الذي تلتزم الحكومة بتطبيقه فقد وردت في "مذكرة السياسات الاقتصادية و المالية" المتكونة من 34 صفحة والملحقة بالرسالة المذكورة. العنوان الأول (contexte économique) خصصته المذكرة لتوصيف الوضع الاقتصادي العام الذي يتسم بوجود بعض الصعوبات (مجرد صعوبات ؟؟؟ لا حديث عن أزمة حقيقية) المتمثلة أساسا في إنخرام التوازنات الاقتصادية الداخلية (ميزانية الدولة) و الخارجية (ميزان الدفوعات) و التي تعود حسب نفس الوثيقة (و كما عودنا الخطاب الرسمي) إلى كثرة الاحتجاجات الاجتماعية و التهديدات الإرهابية. في نفس العنوان أيضا أشارت المذكرة إلى "العوائق الهيكلية" التي تحد من «إمكانيات النمو في تونس". وتتمثل هذه العوائق أساسا في ضعف إمكانيات تمويل الشركات و القيود القانونية ( التراخيص الإجبارية، القيود المفروضة على الاستثمار، غياب المنافسة....) وضعف مردودية الإدارة. كما لم يفت الوثيقة أن تذكرنا بما تسببه المؤسسات العمومية من خسائر لميزانية الدولة وهو ما يجعلها عائقا إضافيا أمام النمو. 
العنوان الثاني ((objectifs et stratégie sous le programme وهو الأهم، يحدد المحاور الرئيسية للبرنامج المزمع تنفيذه مع التأكيد منذ البداية على  أن "الطبيعة الشاملة و المتكاملة للإصلاحات المقترحة تتطلب تشاورا و توافقا وتنسيقا بين مختلف المتدخلين في الاقتصاد التونسي" و هو ما ترجمه قائد السبسي سياسيا  بـ "حكومة وحدة وطنية يشارك فيها اتحاد الشغل و اتحاد الصناعة و التجارة".  مع العلم انه ، حسب ما ورد في المذكرة، قد تم  إحداث وحدة خاصة داخل مؤسسة الرئاسة لمتابعة الإصلاحات. و تتمتع هذه الوحدة بكامل الصلاحيات (أية صلاحيات؟، من حددها ؟ ما هي صلاحيات الحكومة إذن في هذا الجانب ؟....) للتنسيق و العمل على تطبيق الإصلاحات المقترحة في الآجال المحددة. وإحداث مثل هذه الوحدة يمثل سطوا على صلاحيات الحكومة من طرف مؤسسة الرئاسة والبنك المركزي "المستقل" لتتحول الحكومة بوزرائها إلى أدوات تقنية للتنفيذ. أما المحاور الكبرى لهذا البرنامج والتي سنتناولها بالتفصيل فهي كالتالي: 
1-     دعم الاستقرار الاقتصادي.
يخص هذا المحور الإجراءات المستعجلة (المدى القصير) التي تهدف إلى"دعم الاستقرار الاقتصادي" و تتعلق هذه الإجراءات بسياسة الميزانية و السياسة المالية و سياسة سعر الصرف.
·     سياسة الميزانية: في هذا الباب يهدف البرنامج إلى الضغط على عجز ميزانية الدولة (دون اعتبار الهبات) إلى مستوى 2،4 % من الناتج المحلي الخام في حدود 2019 (مقابل 3،9 % حاليا) و المحافظة على نسبة التداين في حدود 51 % من الناتج المحلي الخام (53 % حاليا) وذلك أساسا عبر التخفيض في كتلة الأجور لتكون نسبتها في حدود 12،7 % من الناتج المحلي الخام سنة 2019 (مقابل 14 % حاليا). هذا إلى جانب إجراءات أخرى وقع عرضها في المحور الثاني و سنتناولها بالتفصيل.
في نفس الباب أشارت المذكرة إلى أن ميزانية 2016 سجلت "انحرافا طفيفا" مقارنة بالأهداف المرسومة نظرا للكلفة المرتبطة بمقاومة الإرهاب و الزيادة في الأجور و عجز الصناديق الاجتماعية (الربط بين هذه العناصر الثلاث ليس بريئا !!! ). كما تعهدت باتخاذ كل الإجراءات الإضافية (ما هي ؟) اللازمة لتعديل هذا الانحراف. أخيرا و لتغطية عجز الميزانية أكدت الوثيقة على أهمية التمويل الخارجي و في هذا الإطار ستنتفع ميزانية الدولة بقرض من البنك الدولي (550 مليون دولار) و قرض من البنك الإفريقي للتنمية (500 مليون دولار) إلى جانب هبة (96 مليون دولار) و قرض (492 مليون دولار) من الاتحاد الأوروبي. هذا بالإضافة إلى أن الحكومة تنوي الخروج على السوق المالية العالمية للحصول على قرض بقيمة 500 مليون دولار بضمانة أمريكية وهو ما يتعارض مع الهدف المرسوم المتمثل في التحكم في المديونية و يجعل من التخفيض في نسبة التداين مهمة مستحيلة.  
·      السياسة المالية: في هذا الباب أكدت الوثيقة أن البنك المركزي قد بدأ في تطبيق سياسة نقدية ملائمة تهدف أساسا إلى مقاومة التضخم (اختصار مهمة البنك المركزي في محاربة التضخم ؟؟؟) الذي يرتبط حسب نفس الوثيقة بتدهور قيمة الدينار وخاصة بالزيادة في الأجور (تحميل الأجراء كل المشاكل !!!). و لتحقيق هذا الهدف (الحد من التضخم) أكدت المذكرة على جملة من الأولويات أهمها:
أ‌-                   المصادقة على قانون يخص "النظام الأساسي للبنك المركزي"  (وهو ما تم فعلا في 11 افريل 2016) و يهدف هذا القانون إلى التأسيس لاستقلاليته و التأكيد على أولوية "استقرار الأسعار" كمهمة رئيسية له.
ب‌-                تعزيز إطار السياسة النقدية اعتمادا على الدعم التقني لبنك فرنسا و صندوق النقد الدولي وقد تم في هذا السياق، في افريل 2016 ، إعداد  كتيب يحمل عنوان " دليل إجراءات عمليات السياسة النقدية manuel de procédures des opérations de politique monétaire " . هذا الدليل الذي سيدخل حيز التطبيق في جوان 2017 "يعقلن" النصوص القانونية المنظمة للسوق المالية ويحدد آليات و أشكال تدخل البنك المركزي. هذا  يعني أن مهمة تحديد السياسة المالية قد أوكلت لمؤسسات أجنبية و أن "استقلالية البنك المركزي" ليست في واقع الأمر إلا تحويلا لهذه المؤسسة (الهامة و الخطيرة) إلى مجرد فرع لصندوق النقد الدولي.
·          سياسة سعر الصرف : تهدف الإصلاحات المقترحة في المذكرة إلى الوصول تدريجيا إلى "سياسة صرف مرنة" أي سياسة تجعل سعر الصرف (قيمة الدينار بالعملة الأجنبية) متغيرا، ارتفاعا و انخفاضا، حسب مقتضيات السوق. يكفي فقط أن نذكر هنا أن كل النظريات الاقتصادية، بمرجعياتها المختلفة، تتفق أن عدم استقرار سعر الصرف لا يشجع الاستثمار المنتج بل يدفع نحو المزيد من المضاربة التي بدورها تعمق حالة عدم الاستقرار و تعيق أكثر الاستثمار المنتج. إلا أن القراءة المتأنية للوثيقة تبين أن المقصود بمرونة سعر الصرف ليس في الحقيقة إلا سعيا  إلى تعميق مسار تدهور قيمة الدينار مقارنة بالعملات الأجنبية (الدولار و اليورو أساسا). وهى مسألة هامة و خطيرة يجب أن نتوقف عندها بأكثر تفصيلا.
في الباب السابق (السياسة المالية) أكدت الوثيقة على تدهور قيمة الدينار معتبرة إياه احد الأسباب الرئيسية للتضخم.  إلا أن نفس الوثيقة تعود في هذا الباب (سياسة سعر الصرف)  لتؤكد، في تناقض صارخ مع ما سبق، أن سياسة الصرف في تونس تتسم "بالمغالاة surévaluation " أي أن سعر الدينار(رغم التدهور المتواصل) مازال مرتفعا مقارنة بقيمته "الحقيقية". لذلك تؤكد المذكرة على ضرورة التخفيض من قيمة الدينار لدعم المنافسة و تشجيع التصدير و ذلك بالحد من تدخل البنك المركزي في سوق الصرف و إضفاء مرونة أكثر على قوانين الصرف. يأتي هذا الإجراء استجابة لاملاءات صندوق النقد الذي جعل من التخفيض في قيمة العملة مبدأ و عنصرا ثابتا في كل الوصفات والبرامج المصاحبة لقروضه تحت غطاء تشجيع التصدير رغم أن كل التجارب تؤكد فشل مثل هذا الإجراء في تحقيق الهدف المعلن.
حتى و إن سلمنا بالمفعول الايجابي للتخفيض في قيمة الدينار على الصادرات فإن لهذا  الإجراء  انعكاسات سلبية، بل كارثية، تتمثل أساسا في :
أ‌-                    يؤدي التخفيض في قيمة الدينار إلى ارتفاع أسعار المواد المستوردة (بالدينار) وهى في جزء هام منها مواد أولية و آليات تستعملها المؤسسات المحلية (الصغرى و المتوسطة خاصة). وهى ما يعني بالنسبة لهذه المؤسسات ارتفاعا في كلفة الإنتاج و إضعافا لقدرتها التنافسية (أمام الهجمة الشرسة للشركات الأجنبية الكبرى) قد يؤدي بها إلى الإفلاس و التوقف عن النشاط. و للتذكير فان هذا الإجراء (في إطار اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي) ساهم إلى حد كبير، بين 1996 و 2010 ، في تدمير ما لا يقل عن 55 % من المؤسسات الصناعية الوطنية و فقدان ما يزيد عن 300 ألف موطن شغل. المواصلة في نفس التمشي لن  تؤدي إذن إلا  إلى مزيد تدمير النسيج الاقتصادي الوطني و تعميق وضع البطالة و التهميش.
ب‌-                جزء هام من المواد المستوردة مواد استهلاكية أساسية (غذائية و صناعية) يؤدي التخفيض في قيمة الدينار إلى ارتفاع أسعارها عند التوريد. النتيجة المباشرة هي ارتفاع الأسعار عند الاستهلاك و تسارع وتيرة التضخم و تدهور المقدرة الشرائية للشرائح الفقيرة و المتوسطة خاصة مع النزعة الواضحة نحو تجميد الأجور و الضغط على مستوياتها.
ت‌-                 يؤدي انخفاض قيمة الدينار إلى ارتفاع حجم الديون الخارجية بالدينار التونسي و بالتالي ارتفاع كلفة تسديد الديون و نسبتها في الميزانية العامة للدولة. لهذا تجد الدولة نفسها أمام ضرورة الضغط على نفقاتها للحفاظ على نسبة عجز مقبولة. ومن البديهي أن يشمل هذا الضغط أساسا النفقات الاقتصادية و الاجتماعية وهو ما يضعف قدرة الدولة على التدخل و دفع عجلة النمو الاقتصادي و يحرم شرائح اجتماعية واسعة من حقها في الخدمات الضرورية و أللائقة.  
ث‌-               يؤدي تراجع قيمة الدينار إلى تزايد الطلب على العملات الأجنبية خاصة أمام الحرية الكاملة التي تتمتع بها الشركات الأجنبية لتوطين كل أرباحها. هذا الطلب المتزايد على العملات الأجنبية يرفع من قيمتها أي في المقابل يدفع إلى مزيد تدهور قيمة الدينار ليعيد إنتاج نفس الانعكاسات المذكورة أعلاه. هذا بالإضافة إلى تعميق عجز ميزان الدفوعات الخارجية.
رغم أن هذه الانعكاسات السلبية معلومة لدى الجميع بما في ذلك خبراء المؤسسات العالمية فإن صندوق النقد الدولي و فرعه المحلي في تونس (البنك المركزي) مازال متمسكا بضرورة التخفيض في قيمة الدينار وهو بذلك لا يخدم في حقيقة الأمر إلا مصالح الشركات المتعددة الجنسيات المتكالبة على مراكمة الأرباح و نهب ثروات الشعوب و الأمم المضطهدة. وهو ما يمكن أن نتبينه من خلال النقاط التالية:
أ‌-                   الشركات المتعددة الجنسيات تمسك حساباتها بالعملة الأجنبية (وليس بالدينار التونسي) فهي إذن تقدر تكاليفها و مداخيلها و أرباحها بنفس هذه العملة (الدولار و اليورو أساسا). لذلك فإن كل تخفيض لقيمة الدينار يقابله انخفاض في الكلفة المرتبطة بنشاطها في تونس مقدرة بالعملة الأجنبية و يجعلها أكثر تنافسية من المؤسسات الوطنية. على سبيل المثال يبلغ الأجر الأدنى في تونس حوالي 320 دينار أي، باعتبار سعر الصرف الحالي، ما يقارب 150 دولار أو 133 أورو. لنفترض انخفاضا في قيمة الدينار بنسبة 10 % مقارنة بالعملتين. في هذه الحالة حتى و إن حافظ الأجر الأدنى على نفس المستوى (320 دينار) فانه يتراجع إلى مستوى 134 دولار  و 119 أورو. و ينسحب هذا التحليل على باقي عناصر الكلفة مثل الطاقة و النقل و الاتصالات و التكوين و الأعباء الاجتماعية... أي انه كلما تراجعت قيمة الدينار كلما انخفضت الكلفة بالنسبة للشركات الأجنبية و يمكنها ذلك من فارق تنافسي مصطنع مقارنة بالشركات الوطنية التي كما هو معلوم تعتمد في حساباتها على الدينار التونسي.
ب‌-              النقطة الثانية متعلقة بمسار التفويت في المؤسسات العمومية الذي سنتناوله في العنصر الموالي. ما يعنينا هنا أن تقدير القيمة المالية لهذه المؤسسات (سعر البيع أو التفويت) يقع تحديده أو تقييمه بالدينار التونسي. بالتالي، حسب نفس التحليل السابق، كلما كانت قيمة الدينار منخفضة كلما كانت قيمة هذه الشركات بالعملة الأجنبية منخفضة. أي أن تدهور قيمة الدينار ينتج عنه تدهور في قيمة الشركات المزمع التفويت فيها بالعملة الأجنبية و هو ما يجعل الشركات الأجنبية مؤهلة للاستيلاء عليها بكلفة متواضعة.   
2-  إصلاح المؤسسات العمومية
في هذا المحور تلتزم الحكومة بتنفيذ برنامج إصلاح يشمل الوظيفة العمومية و الشركات العمومية والسياسة الجبائية و صناديق التقاعد و آليات الحماية الاجتماعية (الدعم و التحويلات الاجتماعية). وتهدف هذه الإصلاحات حسب المذكرة إلى تحسين مردودية المرفق العمومي و التحكم في نفقات الدولة.
في ما يخص إعادة هيكلة الوظيفة العمومية تلتزم الحكومة بالشروع بداية من شهر سبتمبر 2016 في تنفيذ خطة إصلاح تهدف أساسا إلى: إعادة النظر في مهام و وظائف الدولة،  التخفيض في عدد المشتغلين في الوظيفة العمومية، إعادة النظر في هيكلة الأجور و المنح و الضغط على كتلة الأجور لتتراجع إلى 12 %  من الناتج المحلي الخام سنة 2020 و إعادة النظر في آليات تقييم الكفاءة و المسار المهني للموظفين. و ستعتمد هذه الخطة على الإجراءات التالية:
·                   تجميد الانتدابات في كل الوزارات على مدى السنوات الثلاث القادمة ما عدى وزارتي الدفاع و الداخلية. و يشمل هذا الإجراء حتى الشغورات الناجمة عن التقاعد.
·                   الدخول بداية من 2017 (مع قانون المالية 2017) في برنامج للضغط على كتلة الأجور و حصر تطورها بنسبة التضخم وذلك عبر "عقلنة" و توحيد منظومة المنح (الخصوصية ومنح الإنتاج) و إلغاء الترقيات.
·                   الشروع بداية من 2018 في برنامج للتشجيع على المغادرة الطوعية للموظفين.
من الواضح إذن أن المذكرة تختصر إعادة هيكلة الوظيفة العمومية في أمرين: التخفيض في عدد المشتغلين و الضغط على الأجور في الوظيفة العمومية. إذا أخذنا بعين الاعتبار استثناء وزارتي الداخلية و الدفاع فإن التخفيض في عدد المشتغلين سيمس بشكل رئيسي وزارات الخدمات مثل التعليم و الصحة و النقل و الثقافة ... أو الخدمات التي تقدمها "الوزارات التقنية"( تأطير الفلاحين، التكوين المهني ، الإحاطة بالمنتجين الصغار...)  وهى مجالات تشكو في وضعها الحالي من شغورات و نقص كبير في الإطارات. بالإضافة إلى تراجع دور الدولة التشغيلي فان مثل هذا الإجراء لن يزيد إلا في تدهور هذه الخدمات و تردي جودتها و بشكل غير مباشر خوصصتها و فتحها أمام الرأسمال الخاص بما في ذلك الأجنبي كمجالات لتحقيق الأرباح. 
أما الإجراء الثاني المتمثل في تجميد الأجور في الوظيفة العمومية فيرتكز أساسا على مقاربة صندوق النقد الدولي (وهى مقاربة صحيحة) التي تفيد أن  أجور القطاع العام  تشكل مرجعية لأجور القطاع الخاص. هذا يعني انه كل ما ارتفعت الأجور في القطاع العام إلا و ارتفعت بالضرورة الأجور في القطاع الخاص. أي، قياسا، إذا أردنا الضغط على الأجور في القطاع الخاص و المحافظة على مستوياتها المتدنية لا بد من تجميد الأجور في القطاع العام. وهذا لا يخدم طبعا إلا مصلحة الشركات الرأسمالية الأجنبية التي تستثمر في القطر و الرأسمال المحلي الطفيلي الذي يستثمر في إطار المناولة لحساب هذه الشركات وأساسا ضمان الربح السهل في المجالات التي ستنسحب منها الدولة.
في علاقة بالمنشآت العمومية، تلتزم الحكومة بمواصلة برنامج إعادة الهيكلة الذي انطلق في أكتوبر 2015. وسيقع بداية من جانفي 2017 إحداث "وكالة للتصرف في مساهمات الدولة" مهمتها متابعة برامج إعادة هيكلة المؤسسات العمومية (بما في ذلك البنوك العمومية). و يشمل هذا البرنامج في بدايته المؤسسات الخمس الكبرى وهى: الشركة التونسية للكهرباء و الغاز، الشركة التونسية لصناعات التكرير، ديوان الحبوب،  الخطوط التونسية  و الوكالة الوطنية للتبغ. ويهدف برنامج الهيكلة إلى إعادة النظر في وظيفة "الدولة – المساهمة " و هو ما يعني تحويل الدولة من مالك إلى مجرد مساهم في المنشآت العمومية إلى جانب مساهمين آخرين. كما يهدف البرنامج إلى تحديد القطاعات الغير إستراتيجية (من يحددها ؟) التي سيقع إقرار انسحاب الدولة منها. إذن، ما يسمى ببرنامج "إعادة هيكلة المؤسسات العمومية" ليس في حقيقة الأمر إلا الخطوة التي تسبق خوصصتها و التفويت فيها لصالح شركات الرأسمال الاستعماري العالمي.
من جانب أخر تلتزم الوثيقة بمواصلة برنامج إصلاح منظومة دعم الطاقة وذلك أولا عبر اعتماد مبدأ التعديل الآلي لأسعار المحروقات  بداية من ماي 2016  على أن يكون هذا التعديل مرة كل ثلاثة أشهر بداية من جويلية 2016 ليصبح شهريا بداية من جانفي 2017. وليس هذا التعديل إلا تحريرا تدريجيا لأسعار المحروقات ينتهي بإخضاع المقدرة الشرائية للمواطنين و الكلفة الإنتاجية للمؤسسات لتقلبات الأسواق العالمية للمحروقات المحكومة بمنطق المضاربة. ويكتمل هذا البرنامج بمراجعة دعم استهلاك الكهرباء بداية من 2017 في اتجاه إلغائه تدريجيا وهو ما سينعكس سلبيا على المقدرة الشرائية لعموم المواطنين.
في باب إصلاح المنظومة الجبائية ركزت المذكرة على الجانب التقني  المتمثل في إرساء إدارة جبائية عصرية و شفافة. كما اعتبرت الوثيقة أن إصلاح المنظومة الجبائية يهدف إلى تنمية موارد الدولة و العدالة و الشفافية إلا أن الإجراءات المقترحة تتناقض تماما مع الأهداف المعلنة و خاصة مع مبدأ العدالة الجبائية. ذلك أن الإصلاح الجبائي، حسب ما ورد في المذكرة يقوم على الترفيع في الأداء على القيمة المضافة و توسيع قاعدته يقابله تخفيض تدريجي في المعاليم الديوانية  وتخفيض في الأداء على الشركات (مشروع مجلة الاستثمار) مع توحيده بين مختلف المؤسسات (الموجهة للسوق الخارجيةoffshore  والموجهة للداخل onshore ) و يأتي هذا "الإصلاح" في تناغم تام مع إملاءات صندوق النقد الذي يرى في تقرير له لسنة 2012 "أن الضغط الجبائي على المؤسسات مرتفع نسبيا في تونس و أنه من الممكن أيضا الترفيع من مردود الأداء على الاستهلاك. بالتالي فإن تخفيضا في الأداء على أرباح الشركات تقابله زيادة في نسبة الأداء على القيمة المضافة مع توسيع قاعدته يمكن أن تكون حافزا للنمو."
خدمة لمصالح الرأسمال العالمي تلتزم الحكومة أذن بالتخفيض في المعاليم الديوانية و الأداء على أرباح الشركات وهو ما سينعكس سلبا على موارد ميزانية الدولة. لتعويض النقص الحاصل وعملا بتوصيات صندوق النقد تلتزم الحكومة في المقابل بالترفيع في الأداءات الغير مباشرة و خاصة الأداء على القيمة المضافة. هذا النوع من الأداء وان كان لا يمس مباشرة الدخل أو الأجر فهو ينعكس في شكل ارتفاع في أسعار السلع و الخدمات وهو ما يعني تدهور المقدرة الشرائية للشرائح المتوسطة و الضعيفة خاصة. هذا طبعا بالإضافة إلى أن التخفيض في المعاليم الديوانية سيدفع نحو إغراق السوق بالبضائع الأجنبية و مزيد تدمير النسيج الإنتاجي الوطني وما بصحبه من توسيع لدائرة البطالة و التهميش.
في نفس المحور تشير المذكرة إلى أن تطبيق هذه الإصلاحات لا بد أن يقترن بوضع "نظام حماية اجتماعية أكثر توجيها" وذلك حسب الأولويات التالية:
·                   منظومة "للتوجيه و الترشيد" تعتمد على بنك معطيات حول "العائلات المعوزة" يقع استكماله في مارس 2017 على أقصى تقدير لضبط و تحديد قائمات المنتفعين بالمساعدة الاجتماعية(assistance sociale ) وتهدف إلى ترشيد "آليات الحماية الاجتماعية (filets de sécurité sociale)". ومن بين هذه الآليات منظومة دعم المواد الأساسية وهو ما يحيلنا إلى ما حاولت حكومة التكنوقراط تمريره أثناء الحوار الاقتصادي تحت غطاء "ترشيد الدعم و توجيهه إلى مستحقيه" أي إلغاء الدعم وتعويضه بتحويلات مالية للمستحقين أي "العائلات المعوزة". طبعا تتكفل الإحصائيات الرسمية و خبراء السلطة بتضييق دائرة "المستحقين" و تحديد التحويلات المالية في أدنى المستويات الممكنة.  لكن، حتى و إن اعتبرنا أن "العائلات المعوزة" لن تتضرر من هذا الإجراء فإن شريحة واسعة من الموظفين و الأجراء و ضعاف الدخل ستشهد تدهورا واضحا لمقدرتها الشرائية خاصة مع التوجه المذكور سابقا لتجميد الأجور. أخيرا، يبدأ العمل بهذا الأجراء بداية من شهر جوان 2017 وينسحب "التوجيه و الترشيد" أيضا على المضمونين الاجتماعيين و المنتفعين ببطاقات العلاج.
·                   منظومة تقاعد أكثر مردودية و متوازنة ماليا تعتمد في مرحلة أولى على تأخير السن القانونية للتقاعد (وهو ما تم إقراره فعلا وعارضه اتحاد الشغل بشدة). كما سيقع، مع بداية 2017 ، الشروع في إصلاح شامل لمنظومة التقاعد يقوم على مراجعة معايير احتساب جرايات التقاعد و نسب المساهمات الاجتماعية.    
3-     إصلاح القطاع المالي
بعد التذكير بالتقدم الحاصل و المتمثل أساسا في إعادة رسملة البنوك العمومية و المصادقة على قانون النظام الأساسي للبنك المركزي وعرض قانون البنوك عل مجلس النواب تؤكد المذكرة على التزام الحكومة بالإسراع في إصلاح القطاع المالي و البنكي  الذي يرتكز في جزئه الأهم على إعادة هيكلة البنوك العمومية الثلاثة (بنك الإسكان، البنك الوطني الفلاحي، الشركة التونسية للبنك). في هذا الإطار تلتزم الحكومة بالشروع في تنفيذ برنامج إعادة الهيكلة في جوان 2016 . على المدى المتوسط تسمح الدولة بدخول "شركاء تقنيين و استراتيجيين" في البنوك العمومية الثلاثة وذلك ببيع جزء هام من حصصها في هذه البنوك تحت غطاء "دعم الخبرة البنكية داخل هذه المؤسسات و تحسين حوكمتها". أما بالنسبة لحصص الدولة في بنوك أخرى فسيتم التفويت فيها كليا.
من الواضح إذن أن إعادة هيكلة البنوك العمومية لا تعني في نهاية المطاف سوى خوصصتها أي فقدان الدولة لأحد أهم أدواتها للتدخل في العملية الاقتصادية. وإذا ما اعتبرنا قانون "النظام الأساسي للبنك المركزي" فان هذه "الإصلاحات" ستؤدي إلى تجريد الدولة من أدواتها الماليّة وتضييق خياراتها للتمويل الذاتيّ، ويؤكّد التوجه الاقتصاديّ والمالي القائم على الفصل التام بين السياسة النقديّة والسياسات المالية والاقتصاديّة للدولة بما يتطابق مع إملاءات صندوق النقد الدولي.
4-      الإصلاحات الهيكلية
في إطار هذا المحور تهدف الإصلاحات المبرمجة إلى إرساء"مناخ أعمال سليم" لدفع القطاع الخاص "كمحرك للنمو و التشغيل" و ذلك عبر المصادقة و الوضع حيز التطبيق في موفى سبتمبر 2016  للنصوص التطبيقية المتعلقة بالقوانين التالية:
·        قانون المنافسة الذي تمت المصادقة عليه في سبتمبر 2015 ويهدف إلى توسيع المنافسة و الحد من تدخل الدولة
·        قانون الشراكة بين القطاع العام و الخاص الذي تمت المصادقة عليه في نوفمبر 2015
·        مجلة الاستثمارات الذي من المنتظر أن تقع المصادقة عليه قبل سبتمبر2016. تهدف المجلة إلى وضع إطار قانوني يوفر "أكثر حماية للمستثمرين" و يدعم حرية الاستثمار عبر الإلغاء التدريجي (على مدى خمس سنوات) للتراخيص القانونية المفروضة على بعض الأنشطة. كما تهدف إلى توسيع دائرة الامتيازات المالية و التخفيض في نسب الأداء على أرباح الشركات تحت غطاء تشجيع الاستثمار (سنعود على تفاصيل مجلة الاستثمار في مقال قادم).
في نفس المحور تلتزم الحكومة بـ "الحد من الحواجز التي تعيق حسن سير سوق الشغل" استنادا إلى مخرجات "الحوار الوطني حول التشغيل" المنعقد في مارس 2016. وإن لم تقدم المذكرة تفاصيل ضافية في هذا الباب فإن "حسن سير سوق الشغل" لا يعني سوى تحريره و إخضاع التشغيل و التأجير إلى منطق "العرض و الطلب" أي ما يعبر عنه في تقارير و وثائق المؤسسات المالية العالمية بمصطلح "مرونة التشغيل". في جوهرها تعني "مرونة التشغيل" التخلي عن كل القوانين و التشريعات التي تحمي حقوق العمال و تحدد ساعات العمل الأسبوعية و الأجر الأدنى وتضمن حقوقهم في حالات الطرد أو التسريح......أي أن "مرونة التشغيل" تهدف إلى  تمكين المؤسسة من حرية تحديد عدد المشتغلين وعدد ساعات العمل بحسب تغير الطلب بما يسمح للمؤسسة بالتحكم في كلفة التشغيل والتقليص في عدد المشتغلين في صورة "الهيكلة الاقتصادية أو الفنية للمؤسسة" والى توزيع ساعات العمل على امتداد السنة والى تحديد الأجر من خلال "مقاربة تعتمد على الكفاءة" (مقولة ربط الأجور بالإنتاجية) وإلى "ملائمة الأجور مع الوضع الاقتصادي للمؤسسة". هذا إلى جانب توسيع دائرة تخفيف الأعباء الاجتماعية ليشمل الأعباء الغير مباشرة مثل الأداء على التكوين المهني والسكن الاجتماعي والتأمين الجماعي وحوادث الشغل والأمراض المهنية ووسائل ومعدات المخاطر المهنية. كما تهدف "مرونة التشغيل" إلى تغيير الإطار القانوني المتعلق بالانتداب وذلك باعتماد عقود العمل القصيرة المدة و تعميم آلية المناولة في التشغيل و أخيرا إضعاف قاعدة التّفاوض الجماعي وتقليص مجاله في حدود المؤسّسة الواحدة (ضرب مبدأ التفاوض القطاعي). مثل هذه الإجراءات لن يؤدي إلا إلى مزيد تفقير الأجراء  و تدهور ظروف عملهم  و تفشي البطالة (ذلك حاجيات المؤسسات سيقع سدها عن طريق التمديد في ساعات العمل بدل الانتدابات الجديدة) و تفشي أشكال العمل الهش (المناولة، العقود الوقتية....).
II-         حكومة "الوحدة الوطنية " أو استباق الأزمة
مما لا شك فيه أن الأزمة و الفشل هي السمات الرئيسية للحكومة الحالية. فهذه الحكومة، نتيجة لتبنيها نفس الخيارات القديمة،  فشلت  في إيجاد حلول حقيقيّة وجذرية لمعضلة البطالة، والتنمية الجهوية، وتراجع الاستثمار واستشراء الفساد وتدهور الخدمات الأساسيّة و غلاء الأسعار و العديد من المشاكل المتعلقة بالحياة اليومية للتونسيين وهو ما يفسر تواصل حالة الاحتقان و تواتر الاحتجاجات الاجتماعية.
هذه الحكومة فاشلة أيضا من وجهة نظر المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) ذلك أنها لم تتمكن إلى حد الآن من تمرير كل إملاءات هذه المؤسسات  بالوتيرة المطلوبة. ومع تزايد ضغط هذه المؤسسات - خاصة بعد تحويل البنك المركزي إلى مجرد فرع لصندوق النقد- وفرضها لجملة من الإجراءات لن تعمق إلا واقع الأزمة، تبدو الحكومة بتركيبتها الحالية عاجزة تماما عن تطبيق هذه الإصلاحات و التعامل مع أزمة ستكون أكثر اتساعا و حدًة.
في هذا الإطار تأتي مبادرة السبسي لتشكيل "حكومة وحدة وطنية" تضم إلى جانب أحزاب الائتلاف الحاكم  وجوبا الاتحاد العام التونسي للشغل و اتحاد الصناعة و التجارة و"أحزاب المعارضة إن رغبت في ذلك". و عبارة "إن رغبت في ذلك" تفيد أن أحزاب المعارضة ليست معنية بشكل رئيسي و أن ما قصده قائد السبسي بحكومة "وحدة وطنية" ليس إلا حكومة "الائتلاف الحاكم زائد اثنين" ، أي الائتلاف الحاكم بأغلبيته البرلمانية القادرة على تمرير كل القوانين و الإجراءات و المنظمتين (منظمة الأعراف و اتحاد الشغل) كضمان للتهدئة أو الهدنة الاجتماعية التي طالبت بها كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة دون النجاح في تحقيقها. و لهذا اعتبر قائد السبسي أن شرط نجاح المبادرة يكمن في انضمام المنظمتين إليها.
من خلال ما ورد في رسالة النوايا و المذكرة المصاحبة لها يمكن أن نتبين حجم الانعكاسات السلبية للخيارات المزمع تنفيذها على شرائح اجتماعية واسعة. فإلى جانب توسيع دائرة البطالة و التهميش قد تدفع هذه الخيارات أغلبية الموظفين و الأجراء إلى دائرة الفقر المدقع نتيجة لتدهور مقدرتهم الشرائية (تدهور الدينار، غلاء الأسعار، تجميد الأجور، تزايد الضغط الجبائي..) و حرمانهم من الخدمات الاجتماعية الأساسية. بل أن حتى المكاسب الاجتماعية (الحق في الشغل اللائق، الضمان الاجتماعي، التقاعد... ) التي كلفت الشغالين نضالات مريرة أصبحت مهددة بشكل جدي و مباشر. كل هذا سيدفع ضرورة إلى مزيد من الاحتقان وإلى توسيع دائرة الاحتجاجات الاجتماعية. ولكن الأهم و الأخطر، من وجهة نظر التحالف الحاكم، أن مثل هذا الوضع قد يفرز تحالفا بين الموظفين و الأجراء وجيش المعطلين عن العمل يكون اتحاد الشغل موضوعيا مهيأ لتأطيره (على غرار ما حصل في جانفي 1978 ). لهذه الأسباب تبدو مشاركة الاتحاد في "حكومة الوحدة الوطنية" مهمة بل مصيرية بالنسبة للتحالف اليميني الحاكم. ذلك أن هذه المشاركة (أي التزام قيادة الاتحاد بالهدنة الاجتماعية) حتى و إن كانت غير كافية لمنع الاحتجاجات فإنها تشرع لقمعها بحجة " عدم شرعيتها و مخالفتها للقانون". كما أن مشاركة الاتحاد و دعمه لحكومة"الوحدة الوطنية" قد ينتج صراعا داخله يضعفه و يحد من قدرته على التعبئة و التأطير و هو ما تسعى إليه أحزاب التحالف الحاكم و خاصة حركة النهضة.      
أما بالنسبة لاتحاد للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية فبرغم انه يحظى بتمثيلية برلمانية وكان منذ الحوار الوطني ممثلا و لو بشكل غير مباشر في الحكومة فإن تواجده بشكل علني في "حكومة الوحدة الوطنية" المرتقبة يكتسي أهمية بالغة. أولا، لأن مشاركة منظمة الأعراف في الحكومة يعطيها شيئا من "الشرعية" و يبعد عنها شبهة المحاصصة الحزبية. أما ثانيا، وهو الأهم، فإن اتحاد الصناعة و التجارة، رغم هيمنة الكمبرادور الطفيلي على هياكله القيادية و أهم مفاصله، يضم في صفوفه شرائح مختلفة تتعارض مصالحها ولن تتأثر بنفس الشكل ولا بنفس الدرجة بسياسات الحكومة المرتقبة.
فإذا كانت الخيارات المزمع تطبيقها تخدم مصالح سماسرة التوريد و التصدير و المناولين لحساب الشركات العالمية فان نفس هذه الخيارات تهدد مباشرة  طيفا واسعا من المؤسسات الصغرى و المتوسطة المرتبطة أساسا بالسوق الداخلية. وكما بينا سابقا فان العديد من الإجراءات  الواردة في المذكرة (التخفيض في قيمة الدينار، التخفيض في المعاليم الديوانية، تحرير الاستثمار...) تعيق نشاط هذه المؤسسات و تجعلها أمام المنافسة الغير متكافئة للشركات العالمية الكبرى خاصة مع النزعة نحو التحرير الكلي للمبادلات التجارية. وهو ما يعني أن هذه المؤسسات الصغرى و المتوسطة  الناشطة في قطاعات هامة (النسيج و الملابس، الجلود و الأحذية، البلاستيك، الخزف و البلور...) ستجد نفسها أمام شبح الإفلاس و التوقف عن النشاط. هذا بالإضافة إلى أن شرائح أخرى من منظوري منظمة الأعراف (حرفيين، صغار التجار، مهن حرة صغرى.....) لن تكون خارج دائرة التدهور الحاد للمقدرة الشرائية. من هذا المنطلق تبدو مشاركة منظمة الأعراف في الحكومة المرتقبة ضرورية (بالنسبة للتحالف الحاكم) تفاديا لاحتجاج جزء من منظوريها و دعما للهدنة الاجتماعية المنشودة.      
أما بالنسبة للأحزاب السياسية (أحزاب المعارضة) فعبارة "إن رغبت في ذلك" الواردة على لسان رئيس الدولة تفيد إنها غير معنية بشكل رئيسي بالمبادرة الموجهة أساسا للمنظمتين كضمان حقيقي للهدنة الاجتماعية. ففي تقدير التحالف الحاكم فان جزءا أولا من هذه الأحزاب (التي عبر بعضها عن مباركته للمبادرة) ضعيف من حيث وزنه السياسي وغير قادر على حمل الإضافة المرجوة بل أن تشريكها في الحكومة سيزيد مسالة توزيع الحقائب الوزارية تعقيدا.  لذلك نرى أن تشريك هذه الأحزاب يبقى واردا فقط في حالة عدم مشاركة المنظمتين وأن تشريكها في المشاورات يدخل في باب المناورة لا غير.
أما الجزء الثاني، المتمثل أساسا في أحزاب الجبهة الشعبية، فيمكن الجزم أن رئيس الدولة كان متيقنا مسبقا من رفض الجبهة الشعبية لمبادرته. لذلك و في علاقة بالجبهة الشعبية فان مبادرة السبسي كانت تهدف أساسا إلى سحب البساط من تحت مبادرتها و عزلها و إبرازها في موضع "الرافض لكل شيء" و المعارض للوحدة الوطنية "المقدسة"  .وهنا لا يجب أن ننسى تلك الاتهامات المباشرة التي وجهها رئيس الدولة ورئيس الحكومة للجبهة الشعبية بأنها تقف وراء تأجيج عدد من التحركات والاحتجاجات آخرها في قرقنة.
إلى حد الآن لا تبدو الحكومة الموعودة واضحة المعالم فباستثناء الجبهة الشعبية التي كان رفضها واضحا مازالت مواقف بقية الأطراف غامضة. اتحاد الشغل أعلن على لسان أمينه العام بأنه يدعم  مبادرة تكوين حكومة وحدة وطنية دون أن يشارك فيها و هو موقف غامض (ويزيده غموضا مشاركة الاتحاد في المشاورات) ما لم نتبين بوضوح ما المقصود بدعم حكومة الوحدة الوطنية. مثل هذا الموقف قد يكون محاولة من قيادة الاتحاد لتفادي مساعي البعض لعزلها و حشرها في الزاوية كما يمكن أن يحيل إلى أن مسالة المشاركة في الحكومة من عدمها ما زالت لم تحسم بشكل نهائي. لكن من الأرجح أن قيادة الاتحاد، تحت ضغط قواعده، لن تغامر بالمشاركة في الحكومة أو حتى دعمها بشكل واضح  خاصة وأنها سبق في العديد من المناسبات وأن  وضعت شروطا للهدنة الاجتماعية وفي مقدمتها تقاسم التضحيات بين الجميع وهي مسألة تتعارض تماما مع خيارات و برامج الحكومة.
أما بالنسبة لمنظمة الأعراف فقد صرحت رئيستها أنها تدعم مبادرة حكومة الوحدة الوطنية وتعتبرها تستجيب لمتطلبات الوضع الحالي أما بالنسبة للمشاركة من عدمها فالمسألة موكولة للمكتب التنفيذي. مما لا شك فيه أن برامج و خيارات الحكومة المرتقبة تتوافق تماما مع تصورات قيادة منظمة الأعراف إلا أن المشاركة المعلنة في هذه الحكومة ليست بديهية والأرجح أن المنظمة ستكتفي بالضغط لتعين أسماء في وزارات معينة. ذلك أن قيادة منظمة الأعراف لن تغامر بتحمل مسؤولية أزمة مرتقبة وإسقاط صورة "المنظمة المحايدة" و"الغير معنية بالحكم" و "الراعية للمصلحة الوطنية" التي سوقت لها منذ الحوار الوطني. وتبدو مشاركة منظمة الأعراف مستبعدة أكثر في صورة عدم مشاركة اتحاد الشغل حتى لا تجد قيادة المنظمة نفسها في وضع سيء تواجه فيه في نفس الوقت  اتحاد الشغل و شرائح من منظوريها المتضررين من أزمة قد تخلق تحالفا موضوعيا بين الطرفين.
من المستبعد أذا أن تكون "حكومة الوحدة الوطنية" على الشكل الذي أرادته مبادرة قائد السبسي و على الأغلب أنها ستحافظ على تركيبتها الحالية مع إمكانية (ضعيفة) لتوسيعها لتضم أحزابا أخرى و اكتفاء المنظمتين بالدعم دون المشاركة الفعلية. لكن المؤكد إن هذه الحكومة، بالخيارات التي تنوي تطبيقها، لن تزيد إلا في تعميق واقع الأزمة و الفشل و قد تجد نفسها في مواجهة احتجاجات اجتماعية واسعة سيكون القمع المباشر خيارها الوحيد في التعامل معها. هذا القمع الذي شرع له رئيس الدولة في الحوار التلفزي المذكور. في تقييمه لعمل الحكومة اعتبر قائد السبسي أن نقطة ضعفها الرئيسية تكمن في عدم تطبيق القانون بصرامة و غياب الحزم في التعاطي خاصة مع المعتصمين في الحوض ألمنجمي و المحتجين في قرقنة. كما اختصر الديمقراطية في حرية التعبير في البرلمان أي التسليم بمنطق الأغلبية الحاكمة، أما الاحتجاجات فهي تعرقل البناء الديمقراطي وبالتالي وجب قمعها باسم الديمقراطية و دفاعا عنها.
مصطفى الجويلي
 11 جوان 2016